مازال الرأي العام العالمي في حالة من الصدمة والذهول إزاء إصرار الطبقة السياسية الحاكمة الأميركية على تقديم كل أشكال الدعم المالي والعسكري والسياسي لإسرائيل، رغم كل جرائم حرب الإبادة التي ترتكبها يومياً بحق سكان قطاع غزة منذ عشرة شهور ونيف، وهي الجرائم التي هزت الضمير العالمي بأسره ودفعته للتنديد بها، كما دفعت شعوب العالم، وفي مقدمتها الشعب الأميركي - ممثلاً في شبيبته الطلابية - على تنظيم الاحتجاجات اليومية لأسابيع ضدها، وضد تمويل عدد من جامعاتهم لمؤسسات عسكرية في إسرائيل وداخل بلادهم، لا بل تزداد صدمة الرأي العام الأميركي والعالمي إثر الاستقبال الأسطوري الذي تلقاه بطل حرب الإبادة رئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية العنصرية المتطرفة نتنياهو في الكونغرس! ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: لماذا تتكبد الولايات المتحدة كل هذه البلايين من الدولارات في دعم إسرائيل منذ ثلاثة أرباع القرن على إنشائها حتى يومنا؟ والجواب بكل بساطة هي لا تتكبد الخسائر من هذا الدعم، بل جنت وتجني من ورائه أضعاف البلايين، ولن تتبدد حيرة العالم ما لم يفهم أن إسرائيل هي بمثابة “الدجاجة التي تبيض ذهباً” للولايات المتحدة. ولعل خطاب الوداع الذي أدلى به الرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور أوائل ستينات القرن الماضي مفتاحا لهذا الفهم، ففيه حذر من توغل المجمع العسكري في مفاصل الدولة، والحد من تأثيره الهائل في صنع القرار السياسي للإدارة الأميركية، وهو تأثير لا حيلة للرؤساء المتعاقبين لتفاديه، ومثلهم في ذلك كل أعضاء الكونغرس من المجلسين الذين أدموا أكفهم تصفيقاً لنتنياهو، فهم لا يضمنون نجاحهم في الانتخابات ما لم يرهنوا مقدماً تأييدهم المطلق للوبي الصهيوني وإسرائيل، ولا يضمنون بقاءهم في كراسيهم إلا بمواصلة ذلك الدعم، إلا ما رحم ربي. وتكمن في الدجاجة البيّاضة عبقرية الصهيونية وأميركا في إنشاء إسرائيل في قلب عالمنا العربي.
ولعل بايدن أكثر الرؤساء الأميركيين صراحة في ترديده مرات “لو لم تُخلق إسرائيل لخلقناها”؛ لوعيه المعمق بما تجنيه الطبقة الرأسمالية الحاكمة من دجاجتها البيّاضة. إن كثرة من الشركات الكبرى ومن ضمنها ذات الصناعات المدنية، والمخترقة إدارياً باللوبي الصهيوني، مرتبطة بالمجمع العسكري ذي النفوذ السياسي المتغلغل في الإدارة الأميركية من خلال ممثلي اللوبي نفسه فيها، كما أن كبار المسؤولين الأميركيين متداخلة مصالحهم الشخصية مع تلك الشركات. وهذه الشركات من خلال قطاعها الصناعي العسكري، وبما ينتجه من أسلحة في غاية التطور التكنولوجي لا تضمن تدفق الأرباح عليها ما لم تُخلق عبر ممثليها في الإدارة الأميركية بؤر توتر شديدة في مناطق عديدة من العالم تفضي إلى الحروب، والشرق الأوسط هو أكثر المناطق مهيئة لهذه المهمة، فموقعه يُعد أكثر المناطق استراتيجيةً في العالم خدمةً للمصالح الأميركية والغربية، وأكثرها ثراءً بالنفط. والحال ان إسرائيل لم تُخلق إلا لأنها الأداة الفعّالة لزعزعة استقرار وأمن هذه المنطقة، ودفع دولها للشعور بالحاجة الدائمة للاستقرار، ومن ثم تأمين هذه الحاجة من خلال عقد صفقات التسلح مع واشنطن التي تُقدر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً، سواءً أكان بغرض توظيفها لمواجهة إسرائيل، أو جراء ملابسات وتعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي المزمن، بما تنعكس تداعياته على خلق صراعات إقليمية وحتى داخلية، وكلها تفرض هوس ذلك التسلح من أميركا. صحيح أن ثمة بؤر توتر عديدة في العالم تدفع دولها إلى عقد صفقات تسلح مع أميركا أيضاً، لكن تبقى بؤرة التوتر في منطقة الشرق الأوسط الأهم، وهي الأكثر عصية على الحل - كما تريد أميركا - قياساً بالمناطق الأخرى.
وفي أواخر العام الماضي وقع الرئيس بايدن على الموازنة الدفاعية بقيمة تبلغ 886 مليار دولار، جزء كبير منها مخصص للإنفاق على إسرائيل وأوكرانيا، ومنذ تأسيس إسرائيل دعمتها الولايات المتحدة بمساعدات عسكرية تُقدّر بـ 300 مليار دولار غير مدفوعة الثمن، وهي تحصل على ما يقرب من 4 مليارات دولار سنوياً لتطوير أنظمتها الدفاعية الصاروخية، فضلاً عن 72 مليون دولار مخصصة لمكافحة الطائرات دون طيار واكتشاف الأنفاق. وأخيراً وفيما مذابح غزة مستمرة على قدم وساق أعلن البنتاغون الأربعاء الماضي عن موافقته على عقد صفقة مع إسرائيل قيمتها ما يقرب من 200 مليار دولار، تتضمن طائرات إف- 16 وذخائر دبابات وذخائر هاون متفجرة ومركبات عسكرية.
كاتب بحريني