أحيت اليابان الأسبوع الماضي الذكرى الأليمة لإلقاء قنبلتين نوويتين أميركيتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي في 6 و 9 أغسطس 1945، حيث بلغ مجموع ضحاياهما المفحمين جراء إشعاعاتهما النووية الحارقة ما يقرب من ربع مليون إنسان في أقل من ثلاث دقائق.ومع ذلك لم تعلن طوكيو استسلامها في الحال، وأخذت تكابر برفضه بضغوط من قِبل كبار جنرالاتها، والذين حاولوا الإنقلاب على إمبراطور البلاد هيروتو لإعلانه الاستسلام بعدئذ في منتصف الشهر، والذي وقعه رسمياً في الثاني من سبتمبر، وفرضت الولايات المتحدة شروطاً مذلة للغاية لقبول استسلامها، ومن بينها تحويل جيشها إلى جيش دفاع ذاتي رمزي مقيد في عديده وحجم تسلحه ونوع التسلح.ومع أن اليابان استطاعت النهوض من ركام هزيمتها المريرة خلال عشر سنوات، إلا أن طوكيو ما زالت عملياً أسيرة لمسايرة سياسات الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل ولم تمانع من وجود قاعدة عسكرية للأخيرة على أراضيها( قاعدة فوتينما الجوية في مدينة غينوان بمحافظة أوكيناوا).
كان المستعرب الياباني نوبوآكي نوتوهارا هو الوحيد بين الشخصيات اليابانية التي قابلتها الذي نجحت في إقناعه بتمديد الحوار ولو بضع دقائق،لكن الوقت الممدد لم يستمر أكثر من ثلث ساعة ولم يمكنني من إثارة معه قضايا حساسة مهمة كانت تشغل ذهني، كمسايرة بلاده للسياسات الأميركية، وكاستمرار قاعدة فوتينما الجوية على الأراضي اليابانية وما تسببه طائراتها من تلوث وضجيج، عدا تعرض تلميذة قاصر للاغتصاب على أيدي جنود القاعدة. صحيح أن نوتوهارا استطاع النفاذ بعمق إلى مكامن الشخصية العربية وطبائع الفرد في المجتمعات العربية، وكذلك سياسات أنظمتها،ومن ثم انتقاد كل تلك الطبائع التي تموج بها مجتمعاتنا العربية على الصعيدين الشعبي والرسمي،وهذا ما جعل أغلب المثقفين العرب يحتفون بانتقاداته وصراحته المتناهية حيث وجدوا فيها مرآة حقيقية صادقة لتلك الطبائع والأفعال والسياسات، لكن من بين كل من تابعت تفاعلهم، وآخرهم الكاتب الكويتي د. محمد الرميحي في مقال له في البيان الإماراتية(نشره أثناء كتابتي هذا المقال) لم أعثر على نقد واحد موجه إلى نوتوهارا ، فهو إذ يتحدث في كتابه عن طبائع الأستبداد العربي على مستوى الفرد، والعائلة، والمجتمع، والمدرسة، والنظام السياسي، فإنه يقارن ذلك كله ببلاده وكأنها واحة من الديمقراطية الناجزة والتحضر! لا أحد يشكك بطبيعة الحال بما وصلت إليه اليابان من تطور صناعي تكنولوجي ورقي حضاري،لكن نوتوهارا لم يقل لنا في أي شيء تلتقي الشخصية العربية -بكل إيجابياتها وسلبياتها- مع الشخصية اليابانية، وكلتاهما شرقيتان، ولم يقل لنا أيضاً لماذا هذا الاستخداء الغريب الذي تبديه اليابان في مسايرتها للسياسات الغربية؟ هو الذي اعترف بأن شعبه لم يعرف القضية الفلسطينية إلا من خلال الإعلام الغربي، وأنه لم يعرف شخصياً عمق هذه القضية إلا من خلال انكبابه على أعمال الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني !
لم يقل لنا أيضاً ما هي إجابته عما إذا سؤل أثناء معايشاته للنخبة المثقفة العربية عن تفسيره لسر تقبل بلاده نظاماً وشعباً، وإن على مضض، الذكرى الأليمة لجريمة إبادة سكان مدينتين يابانيتين حرقاً بالإشعاعات النووية، وهي ذكرى لا ينبغي أن تُمحى أبداً.و أكبر الظن أنه سؤل مثل هذا السؤال، لكن الإجابة الواضحة عن هذا السؤال ستظل لغزاً محيّراً في الشخصية اليابانية أو الطابع القومي لليابان. فمثل هذا الحادث الخطير،خليق بأن يجعل اليابان بكل ما تملك من عبقرية ودهاء سياسي للتخلص من قيود استسلامها ولو بعد حين، لا أن تظل القاعدة الأميركية مستمرة على ترابها الوطني منذ ما بعد استسلامها حتى يومنا هذا! ومثل هذا الحادث الجلل كفيل بأن ترفض الحكومة اليابانية رفضاً قاطعاً زيارة رئيسي الدولة المجرمة( أوباما ثم بايدن) لهيروشيما شهيدة الوحشية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، وحيث رفض كلا الرئيسين الاعتذار عن جريمة إسقاط القنبلتين على المدينتين،وبلا أدنى مبالاة بما سببته هذه العنجهية من هز ووخز لسكينة موتى ضحاياها في قبور رفاتهم، ناهيك عن جرح كرامة من تبقى منهم من بضعة ناجين وأحفادهم، وحيث أحتضن أوباما أحد الناجين ببرود دون أن تذرف من عينيه دمعة واحدة.لم يفسر لنا نوتوهارا لماذا التأثير النفسي على ذاكرة الشعب الياباني يكاد يكون كامناً غامضاً غير معبر عنه في الأدب والحياتين الثقافية و السياسية، إلا في أدنى المستويات إن صح تقديرنا. صحيح أن أكثر من التقييتهم فسروا بأن ماحدث كان من جراء أخطاء وقعت فيها بلادهم وقد تعلموا من دروسها، لكن هذا التفسير الهلامي مازال غير مقنع، فدروس ما حدث متعددة وليست عسكرية فحسب، بل أن أهمها يستلزم اتباع سياسة حياد مسالمة بعيدة عن التبعية للسياسات الغربية.