في منتصف التسعينيات سُنحت لي الفرصة للقيام بزيارة صحافية لليابان، وقبيل موعد الزيارة التقيت في السفارة اليابانية في المنامة بدبلوماسي مختص بترتيبات الزيارة وبرنامجها، وحينما عرض عليّ ما هي الشخصيات والأماكن التي أود أن أزورها غير البرنامج المُعد سلفاً، أجبته على الفور المستعرب الياباني الكبير نوبو آكي نوتوهارا،ومدينة هيروشيما.وقد نُشر حواري معه في الزميلة" أخبار الخليج، بعد عودتي من الزيارة، وكان معرفتي المسبقة عنه جاءت من خلال ما كنت أقرأه فيما كان يكتبه عنه الأديب المصري الكبير يوسف إدريس الذي كرر التقائه بهذا المستعرب الكبير خلال زياراته المتعددة لليابان.وأتذكر بأن نوتوهارا كان الشخصية الوحيدة من بين الشخصيات التي قابلتها التي نجحت في تمديد الحوار معها و المحدد لي -حسب البرنامج- بساعة واحدة فقط. وخلال هذا التمديد الذي لم أنشر عما دار فيه، علمت بنيته على تأليف كتاب عن حصيلة انطباعاته عن العرب بعد تجربة طويلة من المعايشة معهم امتدت 40 عاماً متواصلة، قابل خلالها العديد من الكتّاب والأدباء العرب، ولم تقتصر معايشته على النخبة المثقفة العربية بل شملت بسطاء الناس من البدو والفلاحين.وقد صدر الكتاب فعلاً عام 2003 عن دار الجمل الألمانية. ومع أن الكتاب كرر فيه بعض الآراء التي وردت في حوارنا، إلا أني لم أكن أتوقع على الأطلاق أن يحدث هذه الضجة من الأصداء الإيجابية بمعظمها في عالمنا العربي، و ما زالت هذه الأصداء الطيبة تتجدد إلى يومنا هذا منذ صدور الكتاب قبل أزيد من 20 عاماً،إما في صورة مقالات صحفية أو انطباعات في وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها اليوتيوبات وخلافها. و رغم ما اتسمت به انطباعاته من صراحة متناهية في انتقاد العرب خلال استعراضه انطباعاته في متن الكتاب، إلا أنها انتقادات من موقع المحب لهم ولثقافتهم وتراثهم، كما عبّر عن ذلك عن حق في المقدمة.وإذا ما قارنا ما دوّنه عن العرب ثقافة تراثاً وثقافةً وسياسةً بما كتبه كبار المستشرقين عن العرب في هذه المجالات لوجدناه هو الأهم والأصدق، لما تتمتع به من عمق عظيم في سبر أغوار المجتمع العربي. ويمكننا أن نصنف انطباعاته التي سجلها في كتابه تحت ثلاثة أنواع: الأول انطباعات ثقافية أدبية، وتشمل انطباعاته عن شخصيات الأدباء والمثقفين العرب، والثاني انطباعات سلوكية اجتماعية، والثالث انطباعات سياسية، مع ملاحظة تداخل الضروب الثلاثة مع بعضها بعضاً تداخلاً سياسياً، بحيث لا يمكن-جدلياً- فصل الواحد عن الآخر من حيث دلالاته الشاملة.وهنا سنقتصر في هذه الوقفة على انطباعاته عن شخصية المثقف العربي ثم نتناول في محطة لاحقة كيف كان تأثره بأدب الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني( أُغتيل على يد الموساد 1972).
يرى نوتوهارا أن المثقفين العرب إذا ما أصبحوا نجوماً سرعان ما تصيبهم آفة الغرور والتكبر( ص 52)، فهم يتحدثون إلى محدثيهم، وهم يكثرون من الكلام عن الديمقراطية، لكن تبدو هذه المفردة عن مسلكياتهم أو ثقافتهم النظرية على محك التطبيق، فلو مثلاً تحدث أحدهم عن الديمقراطية لمدة ثلاث ساعات فإنه لا يعطي مجالاً لأحد الحاضرين بالكلام ! ومثل هذا النوع من المثقفين-مكانه المناسب حسب مؤدى كلامه- في السلطة لا النخبة المثقفة المستقلة " كلمة الديمقراطية الآن في العواصم العربية تميمة يرددها الجميع ويحملها الجميع بمن فيهم رجال السلطة الحاكمة ووسائل الإعلام الرسمية". وانتقد نوتوهارا ظاهرة عبادة الزعيم في وطننا العربي غير الموجودة مطلقاً في بلاده ، وعدّد صوراً من مظاهر تلك العبادة في الزعامة على المستوى الرسمي خصوصاً،أما على مستوى النخبة فضرب مثلاً من إحدى الأقطار العربية الكبرى، وكيف أن المثقف يسمح لنفسه بأن يحاط بهالة من التعظيم، حتى في بيته فإن "حضرتك" تتردد مع مدخل كل عبارة أو كلمة، حتى بدا له أن هذا المثقف الذي زاره في بيته بعاصمة بلده بعد أن تعرف عليه مسبقاً في طوكيو وكان منغمساً انغماساً لا يعرف الارتواء، على حد تعبير مستعربنا.. نقول بدا له هذا المثقف أقرب إلى شخصية عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ! كما يضرب مثلاً في كيفية تنشئة المثقف العربي منذ الصغر خلال الحياة الطلابية، حيث تسود ظاهرة الغش، فبينما- نوتوهارا- هو يوزع أوراق الامتحان وينصرف عن طلبته واثقاً في تحليهم بالأمانة في الاعتماد في إجابتهم على تحصيلهم العلمي فقط ليعود بعد نهاية وقت الامتحان لاستلام أوراقهم، فإن الطلبة العرب، كما يُفهم من مؤدى كلامه، يلجأ الكثير منهم إلى الغش حتى بوجود مراقبين. وهو لو عايش العرب بعد صدور كتابه لأدرك أن هذه الظاهرة أضحت اليوم ليست طبيعية ومعتادة فحسب،بل أمست آلاف شهادات الدكتوراه تُشترى، ومن بين مشتريها أساتذة جامعات ووزراء، لا بل الطامة الكبرى لا يخلو من بينهم وزراء تربية وتعليم ! وضرب مثلاً آخر على الصحافة العربية، فبينما في اليابان مقتل أي صحيفة هو اعتمادها على الكذب فإنه يرى الصحافة العربية لا تعبأ بضرب شرفها أو مصداقيتها من هذه الناحية.