من يقرأ كتاب المستعرب الياباني نوبوآكي نوتوهارا " العرب..وجهة نظر يابانية" ستتملكه الدهشة على الفور من قراءته لأول صفحة منه،لأسلوب وعذوبة اللغة العربية التي حرر بهما كتابه بهما بالغ الأهمية، ولا غرو في ذلك إذا ما علمنا بعشق هذا المؤلف للغتنا منذ التحاقه بقسم الدراسات العربية في جامعة طوكيو 1961، ثم عمل فيها كأستاذ جامعي، حتى وصل بعد تراكم خبرة طويلة لديه إلى تحرير كتابه بلغة عربية راقية سليمة، وكأنه واحداً من كبار الكتّاب العرب الذين لايشق لهم غبار في امتلاك ناصيتها، وهو بهذا المستوى الرفيع قرأ روائع الإنتاج الأدبي لكل أو معظم أُدبائنا العرب الكبار ، لا بل قدم نقداً موضوعياً لأعمال العديد منهم للعديد منهم وترجمها إلى اليابانية. على أنه تأثر بوجه خاص بالانتاجات الأدبية للأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، حتى أنه أفرد له عنواناً خاصاً في كتابه،واعترف بداية أن اليابانيين لم يعرفوا القضية الفلسطينية إلا من خلال الإعلام الغربي،لكنه لم يعرف حقيقة هذه القضية إلا من خلال قراءاته لأعمال كنفاني، باعتباره الأديب الذي تابع المصائر الإيجابية والسلبية للشخصية الفلسطينية. وهو من الأدباء الفلسطينيين الذين ترجم بعض رواياتهم وقصصهم إلى اليابانية. وأبدا دهشته من صدور الأعمال الكاملة له بُعيد استشهاده بفترة قصيرة، وعلل ذلك لشعور الفلسطينيين بالفراغ الكبير الذي تركه، ومن ثم حاجتهم الماسة لاستلهام أعماله على الدوام ما بقيت القضية الفلسطينية قائمة.ويضيف نوتوهارا: "تنبأ غسان كنفاني بمستقبل ما سيحقق شعبه واستمر يتابع أبناء شعبه كلها وأصواتهم كلها. ثمن المؤكد أن كنفاني( الأصح من المؤكد) وجد نفسه أمام حالات صعبة حيث تعرض مواطنوه لتجارب مريرة تفوق مخيلتنا، ولكنه بالرغم من ذلك حاول أن يعبّر عن كل ما حدث لشعبه، معتمداً على ما سيحققه هذا الشعب في المستقبل". ص ( 69). كما تأثر نوتوهارا بوجه خاص بقصته" زمن الاشتباك" ثم تعززت عنده القناعة بأهميتها حينما سأل الناقد الأدبي الفلسطيني إحسان عباس عن أي الأعمال التي يفضلها لكنفاني؟ فأجابه" زمن الاشتباك".وهذا يدل بالطبع على عبقرية النقد والتقييم التي يتمتع بها مستعربنا نوبو آكي،والذي نوّه أيضاً بأن أهمية هذه القصة إنما تتجلى في أنها: " تقدم لنا صورة للشعب الفلسطيني وهو يقرر مصيره -أخيراً- بلا تراجع." ويضيف: " عندما قرأت القصة شعرت باطمئنان لأنني عرفت الفلسطينيين اختاروا مصيرهم وحددوا اتجاههم. إنها قصة تصف الحياة اليومية ولكن يظهر الجيل الجديد من الفلسطينيين صامدين لا يعرفون التعب أبداً، أنهم مختلفون عن الجيل القديم الذي لم يستطع أن ينهض تحت وطأة الشعور بالهزيمة". ولعل نوتوهارا هو المترجم والناقد الأجنبي الوحيد الذي يعترف بثراء اللغة العربية ودقائق معانيها المتعددة، مقارنة بلغته التي يتحدث بها، ودلل على ذلك باعترافه الشجاع بخطأ ترجمته لعبارة" الإنسان هو قضية" في رواية كنفاني" عائد من حيفا". وأرجع نوتوهارا عدم دقة ترجمته بهذا المعنى العربي الذي قصده الروائي في روايته، إلى أن اللغة اليابانية فقيرة جداً في التفريق بين المعاني وتعددها تبعاً لتعدد دلالاتها حسب كل حالة كما في العربية.( ص 71).
كما نوّه نوتوهارا بأهمية أعمال أُخرى لكنفاني تناولها في كتابه،والغريب أنه توقف أيضاً عند مدلول كلمة "وطن" واصفاً إياها بعدما استوعب دلالاتها الدقيقة في العربية بأنها ليست بذات الدلالات في اليابانية. وخلص إلى أنه بعد المرحلة الثانية من تشريد الشعب الفلسطيني( يقصد إثر نكسة 67) أصبحت القضية الفلسطينية قضية إنسانية تهم العالم كله،وانها اجتازت الحدود العربية إلى العالم كله.
ولا ندري ماذا عساه يا ترى سيقول اليوم عن هذه القضية وهو يتابع في كل يوم نكبة من نكباتها في قطاع غزة على أيدي جيش الأحتلال منذ أكثر من عشرة شهور. والحال أن أعمال هذا الأديب الفلسطيني الكبير الذي لم يتجاوز سنه عند استشهاده عن 33 عاماً مازالت بحاجة للمزيد من الدراسات النقدية المعمقة،بما في ذلك تنظيم الحلقات الدراسية لهذا الغرض، وكذلك إقامة المحاضرات والندوات.