سبق أن تناولنا في عدة مقالات من أوائل العام الماضي جوانب من سيرة العالم اللغوي والإعلامي اللبناني الفذ أحمد فارس الشدياق(1804- 1887) وما خلّفته لنا أعماله اللغوية والأدبية والصحافية من تراث نفيس في منتهى الأهمية تكشف ما قام من أدوار عظيمة تحولية في تطوير لغتنا العربية وآدابها وصناعة الصحافة. ومع أن هذه الأدور تزامنت مع بواكير النهضة العربية، إلا أن اسم الشدياق يكاد يكون مجهولا كرائد من رواد النهضة، قياساً بالأسماء التي يُشار إليها بالبنان وأُلفت عنهم ومازالت تُؤلف كتباً كثيرة، اللهم إلا قلة من المؤلفين الباحثين الذين نذروا أنفسهم لهذه المهمة لإنصافه وإنصاف ما تركه لنا من تراث عظيم جدير بأن ينشر ويُدرس للإستفادة منه في حاضرنا، كغيره من رواد الفكر والأدب والإعلام.
ولعل من المفارقات الغريبة أنه بالرغم من أن الشدياق حط، خلال رحلة منفاه الأختياري بعد أن أجبرته الظروف القسرية على مغادرة وطنه لبنان، في محطتين عربيتين هي مصر وتونس، حيث قضى فيهما سنوات من حياته،إلا أن أغلب من كتبوا عنه هم من مثقفي بلاده، بحيث لا نكاد نعثر على كتّاب من هذين القطرين العربيين إلا النزر اليسير، ومن بين هؤلاء فيما يتعلق بمصر الأديبة وأستاذة الأدب الإنجليزي الراحلة رضوى عاشور، والتي تناولنا ما كتبته في مقالين من تلك المقالات التي خصصناها عن الشدياق.وهنا نشير إلى أديب آخر ألا هو يوسف الشاروني الذي سلّط الضوء على بعض أعماله ونوّه بما تكتسبه من أهمية بالغة.ففي كتابه" دراسات في الحُب" يصف الشاروني كتاب الشدياق الأهم" الساق على الساق فيما هو الفارق" بأنه يكاد يكون أروع كتبه، ومن أجرأ التراجم التي ظهرت في تاريخ الأدب العربي ومن أكثرها سخرية، كما ينتقي الشاروني فقرات مطوّلة في منتهى العذوبة من كتاب الشدياق، متناولاً وصف المغامرات أو التجارب التي مر بها في حياته، ومنها ما قاله في جمال نساء مصر حيث هام عشقاً يإحدى فتياتها وتزوج منها ( بنت الصولي، أحد كبار الوجهاء السوريين في مصر) مثلما هي هامت أيضاً بصوته عندما كانت تسمع صوته الشجي وهو يغني ويعزف في الدار التي يقيم فيها والمجاور لدار الصولي( يوسف الشاروني، دراسات في الحُب، كتاب الهلال، القاهرة، 1966، ص 92- ص 99).
ولعل ثمة كتّاب مصريون آخرون ممن سلطوا الضوء على أعمال الشدياق وسيرته وخصوصاً خلال المحطة التي أقام فيها بمصر لم تقع بين أيدينا، لكن نرجح أكبر الظن بأنهم ضمن القلة القليلة التي أهتمت بهذا القدر أو ذاك بسيرة وأعمال الشدياق.على أن ما شغل بالي طويلاً خلال سلسلة كتاباتي عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عما إذا كان قد قرأ أعمال الشدياق، أو بعضها على الأقل مالم يكن كلها.فمع أني لا أزعم بطبيعة الحال قد قرأت الأعمال الكاملة لطه حسين، لكن 80% منها على الأقل قّيض لي قراءتها في رحلة بحثي المضنية والتي أعجزتني عن الوصول إلى ال 20%المتبقية، وإن تساورني الشكوك بوجود في هذه النسبة ما يفيد أن عميد الأدب كتب شيئاً عن الشدياق، أو أشار إليه بإشارات عابرة تفيد بإطلاعه بهذا القدر أو ذاك على أعماله، ناهيك عن أن كل المصادر التي اعتمدناها في بحثنا واطلعنا على هوامشها ومراجعها تعزز هذه فرضية غياب تلك الإشارات .
لم يكن اختيار طه حسين عميداً للأدب العربي قد تم على طريقة مبايعة وفود عربية أحمد شوقي أميراً للشعر العربي، وقد سبق أن شرحنا الظروف والملابسات التي جرى خلالها إسباغ ذلك اللقب على طه حسين من قِبل محبيه في بعض الصحف المصرية خلال الحيف الذي لحق به عندما أُبعد عن منصبه كأستاذ وعميد في كلية الآداب،لكننا نزعم لو أدرك الشدياق الذي أحب مصر عصر ابنها البار طه حسين، لكسب الشدياق هذا اللقب بكل جدارة وبلا منازع.