العدد 5645
الجمعة 29 مارس 2024
banner
غزّة الحضارة من التدمير إلى التعمير (2)
الجمعة 29 مارس 2024


شكّلت غزّة للمحتل معضلة كبرى إلى درجة أنّ رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق رابين، تمنى أن يصحو من النوم ذات صباح ليجد غزة وقد ابتلعها البحر، ولأنّ البحر صديق لغزة وأهلها فلا يمكن أن يفعلها، لذا قرّر "نتنياهو" أن ينهض بهذه المهمة مواصلا تاريخا طويلا من التدمير تواجهه غزة بتاريخ أطول من المقاومة والتعمير.
إنّ صورة الدمار القاتمة التي حلّت بغزة اليوم لا تنسينا صورة العمار التاريخية التي تمتد لآلاف السنين؛ وقد رأينا في المقال السابق ما اشتهر به قطاع غزّة من الآثار العمرانية الإنسانية كالمساجد والكنائس، ونواصل اليوم استعراض هذه المعالم العمرانية الضاربة في القدم، والتي ضربها العدو محاولا محو تاريخ غزة الطويل. لقد أتى التدمير الصهيوني في الأشهر الماضية على الأخضر واليابس؛ فدمّر الساحات والأسواق التاريخية كسوق القيساريّة الذي يقع في حيّ الدرج بمحاذاة الجامع العمريّ الكبير، والذي يعود بناؤه إلى العصر المملوكيّ، ودمّر الأرضيّات الفسيفسائيّة التي تقع قرب ميناء غزّة، والتي تزيّنها رسوم حيوانيّة وطيور وكتابات يرجع تاريخها إلى بداية القرن السادس الميلاد. ومن المعالم التاريخية التي طالها التدمير أيضا قلعة خان يونس أو "قلعة برقوق"، والتي شيّدها الأمير يونس بن عبدالله النوروزي، وكذا سبيل السلطان عبدالحميد أو سبيل الرفاعيّة الذي يقع في حيّ الدرج، وهو سبيل تاريخي لسقاء الناس الماء. لقد حاول المحتل أن يمحو هذه الذاكرة التاريخية، لكنّ غزة الأبية تواصل صمودها منذ عدوان 1956، مروراً بالاحتلال عام 1967؛ فغزّة العصيّة كانت آخر بقعة من أرض فلسطين التاريخيّة يحتلّها الصهاينة بفضل استبسال أهلها وصمودهم.. ثم كانت الانتفاضة الأولى فالثانية واندحر المحتلّ عن القطاع. لكنّ التهديدات توالت وتجدّد الحصار والدّمار مع "عملية الرصاص المسكوب" على غزّة عام 2008 - 2009، ومعها حاول الاحتلال من جديد تدمير القطاع باستعمال الأسلحة المحرّمة دوليّاً لإيقاف قصف صواريخ القسّام وتهجير أهل المدينة... لكن دون جدوى فصمود أهل غزّة جعل القطاع أكثر إصراراً على تحرير كامل فلسطين.
وما كاد القطاع يلملم جراحه حتى كان عدوان 2012، ليُضرب فيه قلب الكيان الصهيوني وللمرّة الأولى ولتكون فيها المواجهة على أرض فلسطين التاريخية بأيدٍ فلسطينيّة. ثمّ يعاود التاريخ نفسه مع "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر 2023) ويضرب الكيان في عقر داره ضربة لم يشهدها تاريخ الصراع الطويل، لتقوم دولة الاحتلال مدعومة بكل القوى الغربية بحصار غزة وإبادة أهلها وتدمير كل ما فيها وتجويع الأطفال والنساء والرجال وقتلهم وهم يحاولون الحصول على بعض ما يسد رمق أطفالهم.. والصورة اليوم أصدق انباء من الكلمة؛ فقد نقلت لنا الكاميرا أبشع المشاهد التي أقضّت مضجع العالم الحر والشعوب المناصرة للحرية.. ولكنّها لم تحرك ساكنا في بعض الأنظمة ولا سيما الغربية الداعمة للكيان دون قيد أو شرط.
وبذلك واصل "النظام العالمي الجديد" بمختلف مؤسساته والدول الداعمة له سقوطه الأخلاقيّ، ولا سيما حين نقارن بين تعاطيه مع الحرب الأوكرانية الروسية والحرب القائمة في قطاع غزة... هذا السقوط الأخلاقي قد يستوجب عقودا وعقودا ليستيقظ هذا العالم ونظامه الجديد الفاشل على حقيقة قبحه.
إنّ غزّة وكما عهدناها تاريخيا، سوف تلملم جراحها وتبني من جديد مدنها وقراها، غزة ستنهض وتحقّق أحلام أطفالها، قبل أن ينهض هذا العالم الجديد من سقوطه الأخلاقي المريب.
كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .