العدد 5635
الثلاثاء 19 مارس 2024
banner
من المملكة إلى السبي
الثلاثاء 19 مارس 2024

طبقا لمخطوطات تل العمارنة في مصر أرسل أحد حكام القدس إلى الملك أمنحوتب الثالث الذي تولى حكم مصر عام ١٣٩٧ ق.م رسالة يعلن فيها الخضوع والولاء له طالبا منه حمايته من هجمات "العبيرو" أو قبائل العبرانيين القادمين من آسيا، وكانوا بمثابة قطاع طرق، يهاجمون مدينته باستمرار ويستولون على خيراتها.

في ذلك الوقت البعيد من التاريخ أي حوالي عام 2000 ق.م كان الكنعانيون أهل فلسطين أصحاب حضارة، لكنهم كانوا في حالة من التفكك والصراع فيما بينهم، يحكمهم أكثر من ملك، كل مدينة تخضع لحاكم مستقل عن المدينة الأخرى، ما حال دون قيام دولة مركزية وحاكم قوي ينظم إدارة البلاد، وجيش يحفظ حدود الدولة ويحمي ترابها، بما يفسر سبب المأساة التي تعيشها هذه الأرض خلال تاريخها الطويل وأنها عرضة لجحافل المحتلين والغزاة بأغلب تاريخها.. دائما منقسمة بين حكام وأمراء مختلفين متصارعين مثلما هو الوضع الآن بين السلطة في الضفة وحماس في غزة، مأساة صنعها التاريخ ذلك الذي لا يكف عن تكرار المآسي حتى يتوقف أصحاب العقول ويتعلمون الدرس، وأصحاب المأساة دائما لا يتعلمون. قوة الدولة المصرية كانت الحصن وصمام الأمان ضد الغزوات التي يتعرض لها الكنعانيون من الآشوريين وهجمات البرابرة، وعندما نجح تحتمس الثالث في تكوين امبراطورية ضخمة بعد هزيمته الكنعانيين في معركة مجدو سنة 1479 ق.م، قام بمد أواصر الصداقة مع أمراء كنعان، ومنحهم المزايا، واستضاف أبناءهم في مصر، وعمل على تربيتهم وتعليمهم ليعودوا ويصبحوا أمراء يدينون له بالولاء والطاعة، وكان تحتمس من الذكاء والفطنة، بحيث فعل ذلك مع كل أمراء البلاد التي فتحها وضمها إلى الامبراطورية المصرية الواسعة.

الشاهد أن ضعف الدولة المصرية بعد ذلك وتراجعها إلى داخل حدودها، منح قبائل العبرانيين الفرصة ليمدوا سيطرتهم إلى أرض كنعان، ونجح الملك داود عام 1000 ق.م في تأسيس إمارة صغيرة سميت باسمه "مملكة داود". كانت المملكة الصغيرة عبارة عن تجمع لقبائل العبرانيين 12 قبيلة، هذه القبائل لم تلبث أن تقاتلت وتصارعت حتى انهارت المملكة تماماً، وتم تقسيمها إلى المملكة الشمالية وتضم 10 قبائل، والمملكة الجنوبية التي تضم قبيلتين فقط، استعرت الحرب بين المملكتين، واستعانت مملكة الشمال بالآشوريين، وهكذا اشتعلت المنطقة بالصراع، صراع بين اليهود بعضهم البعض، وبينهم وبين الفلسطينيين "الكنعانيين"، وصراع مع الآشوريين إلى جانب الصراع بين الآشوريين ومصر.

دخول الآشوريين للمعركة أتاح لهم الفرصة لاجتياح المملكتين الشمالية والجنوبية أيضا. ثم قاد الملك البابلي نبوخذ نصر جيشه بنفسه وقضى على المملكة اليهودية تماما واقتاد اليهود إلى بابل سنة 589 ق.م فيما عرف بالسبي البابلي.

أشعل العبرانيون المنطقة بالحرب ودفعوا الثمن قاسياً، تدمير المملكة والسبي. هذا التاريخ البعيد الذي يحلو للإسرائيليين دائما الرجوع إليه وصناعة أساطير حول وجودهم التاريخي، يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار لمن يعي الدرس، فالانتصار وإقامة مملكة صغيرة لم يمنع من تدميرها وحدوث السبي أيضا.

مدير تحرير "الأهرام"

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .