العدد 5635
الثلاثاء 19 مارس 2024
banner
"أمل" والأمل وصحوة الذكرى
الثلاثاء 19 مارس 2024

لم يكن أمامي بُد من أن أقرأ المقال حتى نهايته، كان حوارًا مطولاً، أو ذكريات على لسان زوجة الشاعر الذي مات متكئًا على قصائده، الأديبة عبلة الرويني، أو المعجزة أمل دنقل، أو المبدع محسن عبدالعزيز الذي نقل لنا كل شيء منذ "البكاء" حتى "لا تصالح"، منذ سفر التكوين حيث يعترض الرب على كل شيء، حتى على شكل الحب في الأرض، إلى كلمات سبارتكوس الأخيرة، وهو يتحدث عمن "قالوا لا في وجه من قالوا نعم، من علم الإنسان تمزيق العدم، من قال لا فلم يمت وظل روحًا أبدية الألم". محسن عبدالعزيز يتحدث عن أمل دنقل وكأنه سبارتكوس في لحظاته الأخيرة، يشاهده من خلال حديث عبلة الرويني وهو يذهب لمهرجان شعري عالمي بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد الشاعرين "حافظ وشوقي"، أي شاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي، يحكي محسن عبدالعزيز في مقاله وأنا أتذكر الأحداث شاهدًا على عصرها، بالتحديد شهر أكتوبر من العام 1982 أي قبل هجرتي الأبدية في نوفمبر من العام نفسه، كانت الصدفة تلعب لعبتها الجهنمية حيث كل ما ذكره الصحافي القدير والروائي المبدع محسن عبدالعزيز شاهدته بأم عيني وسط أكبر الشعراء العرب، أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور، وعبدالوهاب البياتي، وشوقي بزيع، ومحمد علي شمس الدين، ومحمد الشهاوي وغيرهم، وكانت ترافقني في تلك الأثناء مديرة تحرير مجلة صباح الخير حاليًا الدكتورة الزميلة عزة بدر. وأذكر من بين ما أذكر أننا كنا نجلس في البهو الخارجي للقاعة الرئيسية التي يُقام عليها مهرجان "حافظ وشوقي"، فإذا بي أشاهد مثلما ذكر "محسن" في مقاله الراحل الكبير أمل دنقل وهو يدخل مترجلاً إلى القاعة متكئًا بإحدى يديه على عصاه المجهدة، وباليد الأخرى على زوجته عبلة الرويني، فإذا بالقاعة تضج بالتصفيق، وأمل دنقل يصعد بصعوبة إلى المسرح تاركًا عصاه ومتخليًا لآخر مرة عن زوجته، ويقف كنخيل الصعيد البعيد ملقيًا على مسامعنا قصيدته الأسطورية "لا تصالح"، "لا تصالح ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى". إلى آخر نصه العبقري وسط عاصفة مستمرة من دموع الحاضرين، وكأنهم قرأوا بين سطور القصيدة رحيلاً مبكرًا لأمل دنقل بعد ستة شهور فقط من المهرجان، ليلقى ربه عن عمر يناهز الـ 43 عامًا تاركًا خلفه أعمالاً مؤثرة، متفانية، متفاعلة مع قضايا وطنه، وخلجات أمته، من "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وقصائدها الرؤيوية البليغة، إلى دارما التعليق على ما حدث بعد نكسة يونيو 1967، ثم ديوانه الاستشرافي العهد الآتي، حتى أوراق جديدة من حرب البسوس، إلى تلك الدعوة التي وجهتها لكبار الشعراء في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي بالتحديد في ورشة الزيتون بمنطقة الزيتون بضواحي القاهرة، حيث كان في استقبالنا الشاعر والمؤرخ المصري الكبير شعبان يوسف، وكان على منصة الحزب الشيخ إمام وهو يشدو برائعة للشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، ثم يفاجئني الجميع بأن أتقدم إلى المسرح لألقي إحدى قصائدي التي كنت قد كتبتها عن "بيروت في الخريف من عمرها"، لكنني وفي زحمة الدموع وفي غمرة البكاء التي أعقبت "لا تصالح" لأمل دنقل، كتبت قصيدة أخرى على عجل كان جسد أمل دنقل النحيل، وشعر رأسه الذي كان غزيرًا كشِعره العظيم، يخايلوني فكتبت إذ كتبت قصيدة بعنوان "جسد" حيث انتهيت بها إلى مقطع الموت الذي يلاحق الصديق والأستاذ.. "في الأزقة لا أسمع الناس تمشي أسمع أن الأماكن تمشي وأن المقابر تمشي وأني أنا لا أسير تتشرد تحتي الضفاف تتصدع فوقي السماء يتساقط عمق المدى فأخافُ فتنطلق الأرضُ موغلةً في البشر فأخرج من لهفتي أتخلص من رمح هذا الجسد".

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .