لم تسعفني الذاكرة لأتذكر العام بالتحديد؛ لكنه كان في بداية الألفية الميلادية الثالثة بعد تولي صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظم حفظه الله ورعاه مقاليد الحكم؛ فقد حالفني الحظ في ذلك العام لأن أكون ضمن الوفد المرافق لجلالته في إحدى زياراته إلى مدينة جنيف.
وكعادة أمراء وملوك آل خليفة الكرام، فقد حرص جلالته وأمر بترتيب عشاء خاص، في أول أيام الزيارة، للوفد المرافق في “مطعم قصر الشرق” في مدينة مونترو السويسرية الجميلة التي تبعد عن جنيف بحوالي 90 كيلومترًا، وهو مطعم أنيق يقع على ضفاف “بحيرة ليمان” أسسه صاحب الذوق الرفيع السيد/ أردشير زاهدي، وتُقَدم فيه الأطباق الإيرانية المميزة.
وقبل الاستطراد، فإن واجب التقدير والعرفان يحتم عليَّ أن أقف لأسجل وأؤكد ما جرّبته بنفسي وشاهدته بأم عيني، وما جربه وشاهده كل من تعامل أو سافر أو رافق أو التقى في سفر أي من أمراء وملوك البحرين من سجايا الأريحية والحفاوة والسخاء والكرم، يتصدرهم ملك القلوب الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، طيب الله ثراه، الذي امتاز وتفوق بمسافات شاسعة في تحلّيه وتمسكه بهذه الخصال والسجايا، ليأتي بعده خلَفه الصالح، الملك المعظم أطال الله عمره، الذي لا يقل عن سلفه في الكرم والأريحية والعطاء ودماثة الخلق.
ولنعد إلى “مطعم قصر الشرق” الذي أسسه أردشير زاهدي؛ أبرز وزراء خارجية إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وكان آخر سفرائه في واشنطن، فبعد سقوط نظام أسرة بهلوي في العام 1979 وقيام النظام الجمهوري الإسلامي في إيران غادر أردشير واشنطن وأقام بشكل دائم وحتى وفاته في مدينة مونترو.
لقد سمعت وقرأت الكثير عن أردشير زاهدي، الذي أمضى جزءًا غير قليل من فترة دراسته في بيروت وأكملها في الولايات المتحدة، ثم صار صهرًا للشاه بعد أن تزوج من ابنته الأميرة شهناز من زوجته الأولى الأميرة المصرية فوزية ابنة الملك فؤاد الأول وأخت الملك فاروق. وبعد 7 سنوات انتهى زواج أردشير بالطلاق، لكن ذلك لم يؤثر على علاقته بالشاه، الذي كان قد عيّنه لفترتين سفيرًا له في واشنطن.
وفي قلب واشنطن أصبح أردشير أكثر السفراء حضورًا ونشاطًا، وأصبح الدبلوماسي الشاب الثري الوسيم اللبق الأنيق بؤرة جذب وإعجاب للفتيات الأميركيات وسيدات المجتمع وألمع نجمات هوليوود، وكانت أشهرهن إليزابيث تايلور التي ارتبطت به في علاقة حميمة وطيدة. كما حوّل زاهدي مبنى السفارة الإيرانية إلى مركز لإقامة سلسلة متواصلة من الحفلات الباهرة الساحرة التي تدور فيها بلا توقف كؤوس الشمبانيا وأطباق كافيار “بلوغا” الإيراني الفاخر، وأصبح مبنى السفارة أيضًا محط لاستضافة ولقاء كبار الساسة والقادة الأميركان ورجال المال والأعمال والصحافة والإعلام، حتى صار الرأي العام الأميركي مفتونًا بالنظام الملكي وثروته وأبّهته، وقد جند أردشير هذه الحالة الذهنية وكل هذه المزايا والأنشطة والفعاليات لإضفاء المزيد من البريق والإشعاع على صورة إيران وقائدها الذي كان يعد نفسه ليكون شرطي الخليج والعين الساهرة على المصالح الأميركية في المنطقة وحتى حدود الاتحاد السوفياتي في تلك الحقبة.
أردشير زاهدي يتحدث اللغة العربية وإن لم تكن بالطلاقة الكافية، وقد حُجبت عنه الجنسية الإيرانية وحُكم عليه غيابيًّا بالإعدام بعد الثورة الإسلامية، وصار يحمل ثلاثة جوازات سفر عربية، أردنيًّا ومغربيًّا ومصريًّا.
أردشير زاهدي له مكانة خاصة بالنسبة إلينا نحن البحرينيين، فعندما أعلنت الحكومة البريطانية قرارها من طرف واحد بالانسحاب من منطقة شرق السويس في العام 1968 وأصبحت البحرين والدول العربية الخليجية الأخرى مهددة ومكشوفة أمنيًّا ودفاعيًّا؛ ارتفعت أصوات الحكومة الإيرانية بالمطالبة بضم البحرين إليها بدعوى تبعيتها التاريخية لها؛ فسارعت الدبلوماسية البحرينية اليافعة آنذاك بتوجيه من أميرها الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وبقيادة شقيقه الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة بالتحرك، وكان محور ذلك التحرك يدور حول أردشير زاهدي الذي كان وقتها وزيرًا للخارجية الإيرانية والذي أصبح أكثر تفهمًا وتعاطفًا مع الموقف البحريني بعد اتصاله بالقيادة البحرينية ولقائه الأول بالشيخ خليفة في جنيف، لقد سمعت الكثير عن ذلك اللقاء وما تبعه من اتصالات ولقاءات من المرحوم الشيخ خليفة نفسه ومن المرحوم يوسف الشيراوي ومن غيرهما.
ومنذ أول تجربة لي في مطعم قصر الشرق فقد حرصت على ارتياده كلما اتيحت لي الفرصة عند زيارة سويسرا، وفي العام 2018، قبل تفشي جائحة كورونا، كنت في سويسرا وزرت المطعم وعرفت أن مؤسسه أردشير زاهدي كان متواجدًا فيه في ذلك المساء في انتظار ضيوفه، فتجرأت وتطفلت وذهبت إليه معتذرًا له أولًا عن الإزعاج مقدمًا نفسي كمواطن بحريني، مبررًا ذلك برغبتي في التعبير له عن التقدير والامتنان لموقفه العادل الحكيم النبيل، ووقوفه إلى جانب إعطاء حق تقرير المصير للشعب البحريني.
ابتسم أردشير ودعاني إلى الجلوس معه لفترة قصيرة قبل وصول ضيوفه، وبدأ حديثه محذرًا من الثقة بالأميركان أو تصديقهم، مضيفًا أنه كان مؤمنًا بضرورة تعزيز علاقة إيران بالدول العربية المجاورة، وأنَّ حل الخلاف حول مستقبل البحرين كان لازمًا لتحقيق هذا الهدف؛ وقال إنه شجع الشاه على المرونة والاستماع إلى رأي شعب البحرين وحكامها والسعي لحل الخلاف بالطرق السلمية والودية، وبالشكل الذي يحفظ ماء الوجه للجميع.
قال أردشير “قدمنا في البداية جملة من الاقتراحات لتسوية هذا الخلاف، منها استعداد إيران لضمان بقاء حكم البحرين إلى الأبد في يد آل خليفة مع وضعها تحت السيادة الإيرانية، وقد رفض حاكمها آنذاك الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة كل الاقتراحات وكان رده على الاقتراح الأخير حاسمًا واضحًا، إذ جاء فيه: لا يهمنا الحكم، تهمنا هوية الوطن واستقلاله وسيادته وصيانة كل ذرة من ترابه، هذه العبارات القوية الحازمة الصادقة جعلتنا نعيد النظر في مواقفنا”.
وأضاف أردشير أن الشاه تأثر كثيرًا وأَسَرته صلابة الموقف البحريني وثقة حكامها “بعد أن أبلغته أيضًا بما قاله الشيخ خليفة لي في أول لقائي به في جنيف، من أن البحرين بعد الانسحاب البريطاني ستكون مكشوفة أمنيًّا، فإذا قررتم الاستيلاء عليها بالقوة فإننا سندافع عنها بأرواحنا وبكل ما نملك، وإذا تمكنتم من اقتحامها فإن جسدي سيكون أول ما ستطؤه أقدام جنودكم، ولا تزال هذه الكلمات عالقة في ذاكرتي”.
وقال أردشير زاهدي أيضًا إنه كان قلقًا على مستقبل البحرين عندما تعرضت للقلائل الناتجة عن أحداث الربيع العربي التي تعرض لها وانهار أمامها عدد من الأنظمة العربية، لكن البحرين بفضل صلابة قيادتها تمكنت من مواجهة وتخطي تلك التحديات والأخطار، “لقد كان بإمكان الشاه أن يتصدى ويتخطى التحديات التي واجهته والاحتفاظ بالنظام الملكي في إيران لو أنه قبل نصائحي وكان حازمًا، ودون التفريط في قيم العدالة والحرية والإنصاف، فإن أساس وجوهر الحكم هو الهيبة والقوة والشجاعة والحزم، وليت الشاه تعلم من حكام البحرين”. قال أردشير كل ذلك وهو في غاية التأثر والانفعال، وفي ذلك اللقاء العابر القصير ذكر الكثير مما لا يسع المجال لسرده في هذه المساحة المحددة المحدودة.
في شهر أكتوبر الماضي كنت في زيارة لمدينة مونترو وذهبت كالعادة لتناول العشاء برفقة زوجتي إلى مطعم قصر الشرق، فأحسست بأن المطعم فقد جزءًا من جاذبيته، فقد انتقل إلى جوار ربه قبل عامين مؤسسه أردشير زاهدي، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.