العدد 5499
السبت 04 نوفمبر 2023
الجزائر والحرب النفسية الإسرائيلية
السبت 04 نوفمبر 2023

على مدى عقود طويلة من تاريخ القضية الفلسطينية لم يخض العرب في تاريخهم الحديث معركة إعلامية صعبة حامية الوطيس، كالتي يخوضونها الآن في مواجهة طوفان أكاذيب آلة الحرب النفسية والإعلامية الإسرائيلية ذات القدرة الهائلة على التضليل والانتشار عالمياً، وذلك بهدف تغطية وتبرير حرب الإبادة الجماعية التي ما فتئت تشنها إسرائيل بوحشية منقطعة النظير على شعب القطاع الصامد.

في العلوم العسكرية الحديثة تلعب الحرب النفسية دوراً محورياً في تقرير مصير أي من طرفي الحروب العسكرية نحو النصر أو الهزيمة. ولما كانت المعركة الإعلامية الحالية بين العرب وإسرائيل تدور على من يكسب الرأي العام العالمي إلى صفه، فإننا نستطيع أن نؤكد بكل طمأنينة - أياً تكن المآلات الكارثية المأساوية القاسية التي سيدفع فواتيرها أهالي غزة - أن إسرائيل مُنيت وحلفاؤها الغربيون بهزيمة أخلاقية تاريخية ساحقة، وهذا ليس بفضل عدالة القضية الفلسطينية فحسب، بل ولانكشاف تهافت ترسانة أكاذيب حربها النفسية انكشافاً فاضحاً غير مسبوق تاريخياً، ناهيك عن أن الرأي العام العالمي، وبفضل التقدم التكنولوجي الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي، ما عادت تنطلي عليه تلك الأكاذيب المتقادمة التي كانت تل أبيب تروجها عبر العالم، معتمدةً في ذلك على طابورها الخامس ولوبياتها الصهيونية في الدول الغربية من خلال تأثيرها على وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية في تلك الدول، كالمحطات الإذاعية والتلفزيونية والصحف، والتي كانت إسرائيل تعتمد عليها كظهير إعلامي أساسي متقدم، سواء في حروبها العسكرية السابقة مع الجيوش العربية، أو حتى مع المقاومات الوطنية العربية. ويمكننا القول إنه على الرغم مما يسود الساحة العربية رسمياً من انقسامات سياسية، إلا أن نوافير الدم الفلسطيني الغزيرة، والتي مازالت تتفجر على تراب "غزة هاشم" على مدار الساعة منذ نحو شهر من العدوان.. نقول: إن نوافير الدم هذه فرضت – موضوعيا - توحد معظم وسائل الإعلام العربي للمشاركة، وإن بدرجات متفاوتة، في هذه المعركة الإعلامية العربية، لصد آلة الحرب النفسية الإسرائيلية. وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نحصر في هذه العجالة كل النماذج الإعلامية المشرفة، فإننا نكتفي هنا بتناول النموذج الجزائري، والذي كان أداؤه لافتاً في هذه المعركة الإعلامية القومية.

ولعل من أبرز المظاهر اللافتة في ذلك الأداء الإعلامي صدور الغالبية العظمى من الصحف الجزائرية الخاصة وشبه الرسمية (35 صحيفة عربية وفرنسية) بعنوان موحد: "غزة.. إعلام يغتال الحقيقة"، وتزامنت هذه المبادرة مع اليوم الوطني للصحافة الوطنية في 22 أكتوبر الماضي والذي اُختير الاحتفال به سنوياً تخليدا لصدور أول عدد من جريدة "المقاومة الجزائرية" سنة 1955، الناطقة بلسان جبهة وجيش التحرير الوطني إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، كما جاءت غداة أكبر فرية أطلقتها آلة الحرب النفسية لإسرائيل بعدم مسؤوليتها عن ارتكاب جريمة قصف المستشفى المعمداني، رغم شهادة صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية على تورطها فيها، ونفي الصحيفة نفسها أن الجريمة المروّعة وقعت جراء صاروخ من جهة المقاومة، وكذلك شهادة طبيب نرويجي من الأطباء العاملين في المستشفى، رغم دعم باريس وواشنطن تلك الأكذوبة ومعها وسائل إعلام غربية ضالعة في ترويج الرواية الإسرائيلية على الفور بلا تورع وبلا حياء!

ووصف الموقع الإلكتروني لقناة "العربية" السعودية بأن المبادرة الصحافية الجزائرية تعد "الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة الجزائرية، وتهدف للتعبير عن موقف مهني وإنساني لدعم فلسطين والتضامن مع الصحافيين في الأراضي المحتلة وإدانة الانحياز الغربي، حسب أصحاب المبادرة". وأشار الموقع الإعلامي لـ "العربية" إلى البيان الذي أصدره الناشرون المشاركون في المبادرة، والذي أعربوا فيه عن إدانتهم القصف والقتل الجماعي والهمجي للجيش الإسرائيلي على شعب غزة الأعزل، وأدانوا السقوط المهني والأخلاقي للإعلام الغربي في تغطيته المنحازة لإسرائيل في حربها على غزة، معتبرين حسب الموقع المذكور، أنه "لم ينحز فقط بل أصبح آلة دعاية كاذبة بتزييف الوقائع لتضليل الرأي العام". ومما يكسب المبادرة الصحافية الجزائرية أهميتها الدولية في تقويض اُسس الدعاية الإسرائيلية كون الجزائر أكثر بلد عربي تصدر فيه صحافة بلغة دولية عالمية الانتشار ألا وهي تحديداً اللغة الفرنسية. 

ويمكن القول إن ثمة عاملين ساعدا الإعلام الجزائري في تحقيق هذا الأداء: 

الأول: ثوابت الموقفين الرسمي والشعبي تجاه مسألتين، الأولى تتمثل في الموقف من الاستعمار الفرنسي وما خلّفه من تركة آلام فظيعة لم يجرِ تصفيتها بعد؛ لتعنت الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ استقلال الجزائر 1962. والثانية تتمثل في الموقف الوطني القومي الجزائري الثابت لنصرة ودعم القضية الفلسطينية بشتى أنواع الدعم. أضف إلى ذلك أن الجزائر ظلت ومازالت تمثل في مخيلة ابناء الشعب العربي الفلسطيني أنها - شعبا وقيادة - صاحبة الملحمة البطولية الأسطورية في كفاحها الوطني الصلب العنيد ضد الاحتلال الفرنسي، والتي قدمت خلالها أكثر من مليون شهيد، وهذا ما يمثل معنوياً قدوة نضالية ملهمة تمد نضال الشعب الفلسطيني بالأمل والإيمان الحقيقي بتكلل ملحمته النضالية بالحرية والاستقلال وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .