العدد 5496
الأربعاء 01 نوفمبر 2023
banner
لمن يكتب الأديب؟ 
الأربعاء 01 نوفمبر 2023

في عام 1955 غداة المعركة الأدبية التي دارت في مصر بين محمود أمين العالم وأنيس عبد العظيم من جهة، وطه حسين وعباس محمود العقاد وأدباء آخرين من جهة أخرى،وبعد أن جمع العالم وعبد العظيم مقالاتهما لاحقاً في كتابهما الشهير الموسوم" في الثقافة المصرية"، بادر سهيل إدريس صاحب مجلة" الآداب" بتنظيم واحدة من أشهر المناظرات الأدبية في تاريخنا العربي الحديث، وذلك بين عميد الأدب العربي طه حسين والأديب والناقد اللبناني الكبير رئيف خوري، تحت عنوان: "لمن يكتب الأديب ..للخاصة أم للكافة؟ "، وكان مكانها قاعة الأونيسكو ببيروت التي غصت بالمثقفين والأدباء اللبنانيين والعرب ، وبدت المناظرة وكأنها امتداداً للمعركة الأدبية التي دارت داخل مصر. 
ولأن إدريس يعلم مقدماً بميول خوري اليسارية، فقد طلب منه أن يأخذ الجانب المتعلق بأن يكتب الأديب للعامة، فيما طلب من طه حسين أن يأخذ الجانب المتعلق بأن يكتب الأديب للخاصة،ومع أن طه حسين كان يبطن تحفظه عن العنوان، فأنه أخفى هذا التحفظ في سبيل أن يظفر بزيارة لبيروت المتشوق إليها، ولم يكشف عن تحفظه إلا أثناء المناظرة. يصف السياسي والناقد الأدبي اليساري محمد دكروب الذي كان شاهداً على تلك المناظرة الفريدة حال خوري أثناء خطابه، والذي كان موضع انتقاد الشيوعيين اللبنانيين حينئذ لعدم تبنيه المفهوم الستاليني للأدب الواقعي: كان يخطب بجسمه، وكان صوته هادراً ، وكانت هامته هادرة، مضيفاً:" يخطب بجسمه كله، بحركة جسمه وإيقاعات يديه، وانفعالاته الحماسية في كل كلمة أو جملة تتطلب هذا الحماس، وكانت ابتسامته الساخرة تعطي واقعاً محبباً.
على أن دكروب الذي وصف هذا المشهد الذي مضت عليه عقود، وكأنه قد عايشه بالأمس،  يعترف في نقد ذاتي شجاع بموضوعية وواقعية تُحسب له بأن خوري في طرحه لمفهومه "الأدب الواقعي"  كأدب للعامة،مقارنة بمفهوم الشيوعيين الستاليني الضيق الأفق حينذاك:" شعرت بأنه يعطي تلك المفاهيم روحاً وتلاوين محلية، عربية، تبعدها عن عمومية التجريد وتقربها إلى الحياة الراهنة". كما يعترف دكروب في مراجعة نقدية ذاتية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي:" أن كلام رئيف كان هو الصحيح، وهو المنسجم مع منطق فهمه الماركسي، في خطابه، للدور التحرري للأدب، ولضرورة استقلال الأديب في علاقته مع السلطة". ولم تكن السلطة الستالينية تقبل-كما نعلم-  بأي استقلالية للأدباء السوفييت! 
وحينما جاء دور أطروحة العميد في المناظرة ضجت القاعة "وسط أمواج هادرة من التصفيق الحماسي" على حد تعبير دكروب، مضيفا: بأنه أخذ يخطب في تدفق ويسر، كأنه يقرأ في لوحة ما أمامه كلاماً مكتوباً بخط واضح مشكول في صوت عذب ساحر. على أن طه حسين نسف عنوان المناظرة من جذورها لعدم منطقيته، فلم يأخذ الجانب الذي خصصه له إدريس بأن يدافع عن كتابة الأديب للخاصة، ولا عن دفاعه عن كتابة الأديب العامة، واعتبر أن المناظرة بين هذين الجانبين،  أو الخصومة بينهما هي مناظرة مصطنعة غير واقعية، فالأديب إذ يكتب لا يكتب للخاصة ولا للعامة، بل يكتب لفن يُتاح له أن يقرأ، والأدب الذي كانت تقرأه فئة قليلة في الماضي صارت تقرأه الكثرة الكاثرة في زماننا مع انتشار التعليم والثقافة. 
وإذ اعترف دكروب بأن الصحافة الشيوعية انتقدت كلا الأديبين الكبيرين غداة تلك المناظرة، وإن اختلفا في هذا الجانب أو ذاك، إلا أنه يقرُ بأن كليهما وُفق أيما توفيق في خطابيهما، وكلاهما يكمل الآخر في منطقية أطروحته،كما أن كليهما كان على حق في نقد السلطة السوفييتية لمصادرتها حرية الأدباء السوفييت. والحال فإن كلا الأديبيين- خوري والعميد- جمعتهما علاقة ودية واحترام متبادل وتواصل مستمر طوال حياتهما، ولطالما مر طه حسين ببيروت  "ترانزيت" أثناء سفره بالباخرة إلى أُوروبا،  وكان يسأل عن رئيف خوري  لدى مريديه وأصدقائه الذين يصعدون للباخرة للسلام عليه وتجاذب الحديث معه. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية