في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وفي أوج حماسته الثورية اليسارية خاض المفكر المصري محمود أمين العالم- كما نعلم- بمعية صديقه عبد العظيم أنيس معركة نقدية أدبية ضد جيل الأدباء الكبار ، وعلى رأسهم طه حسين وعباس العقّاد، وجاءت انتقاداتهما انطلاقاً من الواقعية الإشتراكية حسب المفهوم الستاليني، ثم جمعا المنشورة في الصحف المصرية حينذاك في كتابهما الشهير" في الثقافة المصرية" الذي صدر في 1955 ووضع مقدمته المفكر والناقد اللبناني الراحل الشهيد حسين مروة. لكنهما في مقدمة الطبعة الثالثة، أقرا في انتقاد ذاتي صريح بما كان يتميز به نقدهما لكبار أدباء ذلك العصر بطغيان العناية بالدلالة الإجتماعية والوطنية للعمل الأدبي على حساب القيمة الجمالية.
على أن المعركة النقدية لم تفسد للود قضية بين الرجلين-العميد والعالم- كما هو شائع غالباً من طباع بين الأدباء والمثقفين العرب عند أختلافاتهم في الرؤى النقدية أو السياسية، وعلى العكس من ذلك دارت الأيام والسنين،لتتوطد أواصر المودة بينهما، واعتزاز كل منهما بكتابات الآخر والحفاوة بها.
يكشف العالم في طه حسين ذلك الجانب الخفي من أهتماماته السياسية حتى في سياق أحاديث اللقاءات التي تتم معه، ومن ذلك ما جرى خلال زيارة قام بها العالم مع صديقين أديبين في أربعينية القرن الآفل ، حيث وجّه إليهم فجإةً النقد الصريح؛ لإفراطهم في الحديث عن الثورة دون اتقان العمل الثوري، والتكتيك الثوري، والإستراتيجية الثورية.ويعترف العالم بأنه بعد مرور سنوات طويلة على تلك الزيارة بوجاهة ذلك الأنتقاد، على قسوته، وأنه" كان من العوامل الحاسمة في تشكيل مجرى حياتي خلال السنوات التي تلت هذا اللقاء..". (كتابه، الإنسان موقف،ص 77 - ص 78).
وفي الجلسة الحوارية التي استضاف فيها برنامج" نجمك المفضل" في التلفزيون المصري عشرة من كبار الأدباء المصريين من اتجاهات مختلفة، من بينهم محمود العالم، كان هذا الأخير الأقل مداخلة من زملائه، ومع أن العميد كان مرهقاً وأعطى أكثر من إشارة لإنهاء الحوار، إلا أن العميد وعندما أعلنت معدة البرنامج ليلى رستم من جانبها على اقتراب الحلقة من الأنتهاء نبّهها العميد بأنه يود سماع رأي أو مداخلة من الأستاذ محمود العالم، وبعد أن أدلى هذا الأخير بمداخلته، وعقّب عليها العميد، فقد تبين في مجرى تعقيبه بأنه متابع جيد لأعماله مقرظاً بوجه خاص بكتابه" معارك فكرية، مع ما هو معروف عن هذا الكتاب السياسي الفكري بأن مؤلفه كان ينتهج فيه الخط الماركسي الإشتراكي، وهذا ما يدلل على انفتاح طه حسين على مختلف التيارات الفكرية الوطنية في عصره ما دامت تتبع منهجاً علمياً عقلانياً في كتاباتها ودراساتها. وكان العالم هو الذي قام بمراجعة كتاب "معك" لسوزان طه حسين البالغ الأهمية الذي يحكي مذكراتها عن حياتها الزوجية.
وكان محمود العالم قد مقالات عديدة في الصحافة المصرية، فضلاً عما أصدره من كتب مشيداً فيها بالدور المتفرد الذي لعبه العميد تنويرياً وعقلانياً في النهضة المصرية والعربية عامةً، فضلاً عن دوره النقدي الأدبي. ففي مقالة له في مجلة أدب ونقد( اكتوبر 1988) شدّد على أهمية المنهج الذي انتهجه لعميد في مختلف دراساته الأدبية والفكرية والفلسفية،معتبراً هذا المنهج هو القيمة الكبرى الصلبة الباقية بعد رحيله والتي تمثل إضافة حقيقية للثقافة العربية، ونقطة انطلاق للتقدم والتحرر فكريا واجتماعياً وحضارياً في عصرنا الذي يشهد موجات ظلامية لإطفاء نور العقل وازهاق روح العلم والموضوعية.
وفي دراسته المنشورة في العدد الأول من الكتاب الثقافي الفكري" قضايا وشهادات" تحت عنوان:" طه حسين: الحلم والواقع والمستقبل" يسلط العالم بالتحليل الضوء على أهمية كتاب طه حسين" مستقبل الثقافة في مصر" مؤكداً أن المشروع النهضوي التعليمي والثقافي الذي نادى به العميد في هذا الكتاب، كاد يتحقق الجزء الأكبر تحت مظلة المشروع النهضوي المتبع في الستينيات، بيد أن هذا المشروع أُجهض، ملمحا لفشله بنكسة 1967. كما أكّد العالم اتفاقه مع العميد بأننا نعيش حضارة واحدة، ولا سبيل إلى العزلة عنها أو التعالي عليها باسم الخصوصية القومية أو الدينية.
والحال أن كلا هذين المفكرين والناقدين الكبيرين الصديقين، العالم وطه حسين، تركا لنا إرثاً عظيماً من الأعمال المتنوعة في مختلف المجالات الأدبية النقدية والثقافية والاجتماعية الفكرية،فما أحوجنا اليوم إلى الرجوع إليها وتمثلها، إذ لا تزال تحتفظ بأهميتها وقيمتها في الإجابة على أسباب الوهدة الحضارية التي مابرحنا نتخبط في قعرها، وفي تحديد شروط النهضة وبوصلة الخلاص النهائي من تلك الوهدة.