العدد 5482
الأربعاء 18 أكتوبر 2023
banner
المعري بين مروة والعميد
الأربعاء 18 أكتوبر 2023

مثلما درس عميد الأدب طه حسين أعمال أبي العلاء المعري دراسة مستفيضة، وكان عنوان رسالته لنيل الدكتوراه من الجامعة المصرية" تجديد ذكرى أبي العلاء المعري" ، فعل كذلك أيضاً الأديب والناقد والسياسي الراحل الدكتور حسين مروة، وإن جاءت دراسته أقل طولاً، لكن من الواضح أنه قرأ كل أعمال المعري وجُل ما كُتب عنه من قِبل الأقدمين، ومن قِبل أبرز النقّاد والأدباء في تاريخنا الحديث أيضاً. 

وأكبر الظن أن العميد لا يجهل اسم مروة بالمرة، فلعل تناهى إلى مسامعه بأنه هو الذي كتب مقدمة الكتاب الشهير الذي ألّفه كل من المفكر المصري محمود أمين العالم وصديقه الدكتور أنيس عبد العظيم الموسوم" في الثقافة المصرية" والذي يجمع بين دفتيه مقالاتهما المنشورة في الصحافة المصرية أواسط خمسينيات القرن الماضي، والتي انتقدا فيها طه حسين وعباس العقّاد وغيرهما، وفق "المدرسة الواقعية"التي كان كلاهما يتبناها،محاكيان فيها المدرسة الأدبية السوفييتية، وإن كان العميد اطلع على تلك المقالات وأدلى بدلوه في حينه على تلك الانتقادات ،وكذلك فعل العقّاد.

وثمة تشابه كبير في حياة وتحولات الرجلين- طه حسين وحسين مروة- بدءاً من مسيرتهما التعليمية الدينية،فالعميد سئم من أسلوب التعليم الأزهري، وانتهى  به الأمر إلى خلع زيه الديني، وأضحى بعد نيله الدكتوراه من السوربون بفرنسا يتبنى الفكر الليبرالي بنزعة يسارية مستقلة، وحسين مروة هو الآخر سئم من أسلوب التدريس في حوزة مدينة النجف في العراق، ومع أنه أكمل دراسته الدينية هناك، إلا أنه خلع زيه الديني إثر تأثره بالفكر الماركسي، ونال شهادة الدكتوراه عن رسالته" النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" من إحدى الجامعات السوفييتية بموسكو عام 1978 ، لكنه اُغتيل في مسكنه على يد إحدى القوى الظلامية 1987 قبل أن يستكمل مشروع دراسته المتقدم ذكرها والتي نال عنها شهادة الدكتوراه.

قرأت الرسالة الموسوعية " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" وهي في مجلدين صادرين عن دار الفارابي البيروتية، الطبعة الأولى  1979، الأول يتكون من ألف ونيف صفحة، والثاني يتكون من 750 ونيف صفحة..أقول قرأتها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وهي الفترة نفسها التي قرأت فيها كتاب حسين مروة " تراثنا كيف نعرفه؟" الصادر عن مؤسسة الأبحاث البيروتية، الطبعة الأولى 1985،والذي يشتمل على دراسته لأبي العلاء المعري، فضلا عن قراءتي لدراسة طه حسين" تجديد ذكرى أبي العلاء المعري" والمتضمنة في المجلد الثالث من كتاب " من تاريخ الأدب العربي" والتي شغلت ما يربو على 500 صفحة( ص 363- ص 867).

وقد لاحظت ثمة تباين في وجهات النظر بين مروة والعميد فيما يتعلق بالاستدلالات المستخلصة من بعض أعماله ، وتحديداً فيما يتعلق بديوانيه "سقط الزند" و" اللزوميات" ودونت حينها تعليقات مقتضبة بذلك بقلم الرصاص على هوامش كلا الكتابين. وسنقتصر تالياً على مسألتين من جوانب الاختلاف :

المسألة الأولى: تتعلق برؤية كلا الناقدين حول استدلالهما عما ينطوي عليه ديواني المعري" سقط الزند" واللزوميات" عن نمط الحياة التي عاشها الشاعر خلال نظمه قصائد كلا الديوانين، ففي حين يرى العميد بأن مدائح المعري في "سقط الزند" تشتمل على قسمين، الأول يشتمل على قصائد موجهة إلى شخص خيالي أو موجود، والثاني يشتمل على قصائد يمدح بها شاعراً مدحه، أو صديقاً كتب إليه، فإن مروة يأخذ على طه حسين بأنه يجاري أبا العلاء في نظم قصائد النوع الأول على سبيل الرياضة وإتقان الصناعة الفنية، وأن الأشخاص المعنيين هم أشخاص خياليون مخترعون. إذ يرى مروة أن من يقرأ تلك القصائد قراءة متذوقة متعمقة لن يشعر بأنها قصائد نُظمت على سبيل رياضة القريحة، أو محاولة الإتقان الفني. وهو يختلف مع استنتاج العميد بأنها من " الشعر المنتحل المتكلف" لما يجد فيها القاريء من صدق قوي في الشعور وحرارة العواطف. أما فيما يتعلق بقصائد "سقط الزند" يرى مروة أنه يُستنتج منها أن الشاعر نظمها خلال مرحلة شبابه وجزء من كهولته، ويستخلص من قصائده في هذه المرحلة بأنه كان مقبلاً في هذه المرحلة على الحياة مخالطاً للناس دون أدنى شعور ينتابه من اليأس أو التشاؤم. أما في المرحلة الثانية والتي كان فيها متشائماً منعزلاً عن الناس فتعبر عنها قصائد  "اللزوميات".

المسألة الثانية: وتتعلق عن مدى إلمام المعري بلعبة الشطرنج وأدواتها، كما عبّر عنها في إحدى قصائده المنظومة الواردة في قسم " الدرعيات" من ديوان "سقط الزند"  والتي قالها في لاعب الشطرنج، ففي حين شكك طه حسين في قدرة وإلمام المعري بهذه اللعبة، فإن مروة أومأ ضمنياً بتصديقها مؤكداً  بأن العبرة تؤخذ من حيث دلالة الرواية العامة، لا من التدقيق في تفاصيلها، وهذه الدلالة تتمثل في أن الشاعر كان ظريفا مرحاً في تلك المرحلة( مرحلة سقط الزند) يشارك الناس في لهوهم وجدهم دون تزمت .  

وبطبيعة الحال لست هنا بصدد المفاضلة بين وجهتي نظر الناقدين الكبيرين طه حسين وحسين مروة ، فهذا خارج عن تخصصي ومقدوري، لكن أكاد أجزم بأن العميد لم يقرأ ما كتبه مروة، فلو أنه قد قرأه ما كان ليصمت، دون أن يدلو بدلوه فيما أبداه مروة من ملاحظات نقدية اختلف فيها بكل ود وإجلال لمقام العميد، فوجهة نظره كانت من القوة والتماسك المنطقي ما يدفع طه حسين للرد والتفاعل معها، هو الذي لم يهمل قبل ذلك الرد على محمود أمين العالم وأنيس عبد العظيم في نقدهما له من منطلقات المدرسة "الواقعية الاشتراكية ".وكم تمنينا لو اُتيحت الظروف لتعارف هذين الناقدين والمفكرين الكبيرين،  طه حسين وحسين مروة، أو لو جرت بينهما  لقاءات وحوارات متعددة، لأثمرت بكل تأكيد عن منفعة عامة جليلة، ولرفدت تراثنا الأدبي الحديث بدرر نافعة لأجيالنا المتعاقبة. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .