العدد 5492
السبت 28 أكتوبر 2023
banner
تشييع عصر طه حسين
السبت 28 أكتوبر 2023

في مثل هذا اليوم الموافق الثامن والعشرين من أكتوبر 1973،غداة وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر،  يمر نصف قرن بالتمام على رحيل الأديب والناقد والمربي والمفكر الكبير طه حسين، عن عمر ناهز الثالثة والثمانين، بعد حياة حافلة بالنضال الشاق على شتى الأصعدة الأدبية والثقافية والتعليمية والفكرية والسياسية لأجل نهوض وطنه وأُمته حضارياً.على أن جنازته لم تُشيّع إلا في يوم 31 أكتوبر انطلاقا ًمن جامعة القاهرة، وكان اختيار انطلاقها من هذا المكان موفقاً للغاية، لما يرمز إليه من أبعاد علمية وحضارية، حيث كافح الفقيد كفاحاً صعباً من أجل تطوير الجامعة، ولا سيما كلية الآداب التي كان أول عميد لها. والحق لم تشهد القاهرة في تاريخها الحديث جنازة مهيبة لشخصية عظيمة من أهل الأدب والثقافة والفكر كما جرت لجنازة طه حسين. وقد سار في تشييعها نحو 50 ألف شخص تقدمهم عدد من رجالات الدولة،من الوزراء والمحافظين، والسفراء، ورئيس الجامعة وعمداء الكليات وكبار الأساتذة، ومن بينهم تلميذته النجيبة د.سهير القلماوي فضلاً عن عدد كبير من كبار أدباء ومثقفي مصر المعروفين، في مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين، وشخصيات عربية من الأدباء والمثقفين، وعدد منتخب من الطلبة النجباء حاملين أوسمة طه حسين. وحُمل النعش على أكتاف عدد من جنود القوات المسلحة. تحيطه أعداد من حملة باقات الزهور، واستمرت مسيرة التشييع ساعة كاملة، مارةً بتمثال النهضة، وعابرة كوبري الجامعة، حتى وصولها مسجد صلاح الدين بالمنيل حيث أقيمت صلاة الجنازة. 

ولعلي بهذه المناسبة أتذكر جيداً بأني في خريف هذا العام 1973 قد رجعت من الإجازة الصيفية إلى القاهرة-بمعية صديقي وزميلي عبد الحميد حسن- مبكرا منذ منتصف سبتمبر، قبل الموعد المعتاد  لبداية العام الدراسي الجديد 1973/ 1974 بشهر تقريباً، وكانت الأسابيع التي أمضيناها قبل بدء العام الدراسي الجديد من أمتع الأيام التي قضيناها خلال حياتنا الدراسية في مصر، إذا عايشنا الأيام التاريخية لحرب أكتوبر بدءاً بملحمة العبور المجيدة بعد ظهيرة يوم السادس .وإذ علمنا مسبقاً بموعد الجنازة من الصحف اليومية، سرنا في الصفوف الخلفية مع السائرين في تشييعها.(المقال كاملاً في الموقع الإلكتروني).

 وكان زميلي الصديق الدكتور عبد القادر المرزوق(اُستاذ اللغة العربية بجامعة البحرين حالياً)، والذي كان طالباً وقتذاك في قسم اللغة العربية بجامعة الأزهر، أن اقترح تنظيم أمسية تكريمية على روح الفقيد الكبير عميد الأدب العربي في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين بالقاهرة، وألقى في هذه الأُمسية محاضرة عن إسهامات الفقيد الأدبية والفكرية، لكن الحضور من الزملاء حينئذ كان قليلا للأسف،نظراً لوجود معظم الطلبة في البحرين،لعلمهم بتأخر بداية العام الدراسي،فضلاً عن إغلاق مطار القاهرة؛ بسبب الحرب،ولم تبدأ الدراسة الجامعية  إلا خلال شهر نوفمبر. 

وإذا جاز لي أن أعبّر عن دلالات هذه الجنازة فلا أجد أجمل من أن أستعير  ما عبّر عنه الروائي الكبير يوسف إدريس،:"... كنا نشيع عصراً بأكمله، عصراً بدأ مع بداية فجر الفكر العربي، وانتهى بإشراقة صباحه، ... كما نشيّع  فرداً احتوى بين ضلوعه طموح أُمة، ومن ظلامه الخاص وظلامها الخاص قادها إلى النور، إلى هذا القرن". ولعل فقيدنا العميد رثى عصره قبل أن يرثيه محبوه بعد مماته، ففي الحوارات الإعلامية التي اُجريت معه في سني حياته الأخيرة، لطالما عبّر عن ألمه وندبه لما آل إليه-وهو في خريف عمره- الحال لعدم اهتمام الشباب بالثقافة الجادة، وإيثارهم مشاهدة التلفزيون والسينما، والتفرج على مباريات كرة القدم على القراءة المعمقة، وفي أفضل الأحوال يكتفون بالثقافة السطحية كقراءة الصحف فقط. 

وفي حوار تلفزيوني  أجرته معه سميرة الكيالي ( زوجة المفكر محمود أمين العالم) عام 1970، أي قبل ثلاث سنوات من رحيله، سألته عن آماله التي يرجو أن تتحقق سنة 2000 في مصر والوطن العربي والعالم، فأجاب بأنه " يرجو أن تكون الحياة خير من حياتنا الآن، من النواحي الثلاث، الأدبية والعلمية والاقتصادية، وأرجو أن تكون حياة الناس المادية أسعد منه الآن، وأن يكون المصريون قد تعمقوا في العلم وأصبحت لهم آثار جدية فيه، وأن يزداد إنتاجنا من الأدب الرفيع حقاً". 

وكان أن سخر في هذا الحوار نفسه من كثرة كلام العرب عن العلم والاكتشافات أكثر من الأفعال الحقيقية!  

ويبقى السؤال : إلى أي مدى تحقق شييء من أُمنيات طه حسين في ألفيتنا الجديدة الراهنة؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية