العدد 5475
الأربعاء 11 أكتوبر 2023
banner
لماذا عدل العميد عن حياة المعري؟
الأربعاء 11 أكتوبر 2023


أتذكر أول ما بدأت أنكب على قراءة أعمال طه حسين الدسمة، بعدما كنت أقتصر على المقالات الصحفية العابرة، كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن الماضي،عندما كان عندي متسع من الوقت الطويل والفراغ القاتل، حينها أخذت أقرأ بنهم أعمال طه حسين قراءة دراسية متمعنة، والبداية كانت مع ثلاثة مجلدات ضخمة توفرت بين يدي بعنوان "تاريخ الأدب العربي"، الطبعة الرابعة الصادرة عن دار العلم للملايين البيروتية عام 1988، وكان أضخمها المجلد الثالث الذي تناهز صفحاته ما يقرب من ألف صفحة، فيما يبلغ الثاني خمسمئة صفحة، ويبلغ  المجلد الأول ما يربو على الستمئة صفحة ونيف. ومن الموضوعات التي شدتني وأُعجبت أيما إعجاب، حكاية انبهاره الشديد بالشاعر العربي الكبير أبي العلاء المعري وتماهيه مع هذه الشخصيه، حتى أنه كتب رسالته لنيل الدكتوراه من الجامعة المصرية عنه، وكانت بعنوان" تجديد ذكرى أبي العلاء المعري"،  بل وقرر أن ينتهج حياته في الزهد بعدم أكل اللحوم والامتناع عن الزواج. وعند وصفه لحال ومعاناة أبي العلاء وسط المبصرين، كتب هذا الوصف الذي لا أظن أحداً جاء بمثله في روعة.  تجسيده لمشاعر وأحاسيس الكفيف وسط المبصرين :" والمكفوف إذا جالس المبصرين أعزل، وإذا بزهم بأدبه وعلمه وفاقهم في ذكائه وفطنته، فقد يتندرون عليه بإشارات الأيدي، وغمز الألحاظ، وهزالرؤوس وهو عن كل ذلك غافل محجوب. فإن نمت عليهم بذلك حركة ظاهرة أو صوت مسموع فحجته عليهم منقطعة، وحجتهم عليه ناهضة. وليس له من ذلك إلا ألم يكتمه وحزن يخفيه، ثم إن اشتد ذكاؤه، وانفسح رجاؤه، كثرت حاجته إليهم، وكثرت نعمهم عليه، فهو عاجز عن تحصيل قوته إلا بمعونتهم ، وهو عاجز عن شفاء نفسه من حب العلم والمطالعة إلا بتفضلهم. وهو عاجز عن الكتابة والتحرير إلا إذا أعانوه وتطولوا عليه. وللمنن المتظاهرة  والآلاء المتواترة في نفس العاجز الفطن هو الشكر يشوبه الحزن.والثناء يمازجه الأسى والحرمان أخف عليه من منة يعقبها منّ ونافلة يشوبها استطالة. ولشعور الإنسان بعجزه وقع ليس احتماله ميسوراً ، ولا الصبر عليه إلا متكلفاً، وليس يلقى المكفوف من رأفة الناس به، ورحمتهم له وعطفهم عليه، إلا ما يذكي الألم في صدره، ويضاعف الحزن في قلبه، ثم هو لا يلقي من بيوتهم وشدتهم ولا استهانتهم وازدرائهم إلا ما يُشعره الذل والضعة، وينبهه إلى العجز والضعف. ومكان المكفوف في نفس زوجه وبنيه دون مكان المبصر. فإجلالهم إياه محدود وطاعتهم له مقصورة على ما يتنبه إليه، ثم بعد ذلك حرُم التمتع بلذة يكبرها الناس، وجهله إياها يضاعف خطرها في نفسه، فإن تعاطى صناعة الشعر أو الوصف فإن هذا الحرمان قد استتبع ضعف خياله، وحال بينه وبين مجاراة الشعراء والواصفين فيما يتنافسون فيه، إلا أن يكون مقلداً أو محتذياً ، ثم هو يسمع الناس يتحدثون عن بهجة الربيع وبهجة الربى، وعن اتساق الازهار، والتفاف الأشجار، وعن اكتساء الأنهار الجارية، والبحار الطامية، ثياباً فضية أو عسجدية في الصباح والأصيل، وعن أولئك الحسان الفاتنات  أوردت خدودهن ولمعت ثغورهن اللؤلؤية بين شفاهن اللعس، والتأمت من وجوهن وشعورهن نضرة النهار وفحمة الليل، وعن السماء وأفلاكها، والنجوم وحركاتها، وعن السحاب المركوم يخفق فيه البرق، وعن حبات البرد تتساقط، وقطرات المطر تنتثر، وعن ضوء القمر هلالاً وبدراً، وعن الشفق أو الليل وآخره...". ثم يضيف منبهاً في فقرته هذه المطولة إلى نقطة بالغة الأهمية تضاعف معاناة الكفيف:" فإذا أضيف إلى هذه الآلام فساد الأخلاق، وانحطاط النفوس، وازدراء المنكوبين، وأصحاب الآفات حتى من الخاصة وأهل العلم، ثم اشتداد الفقر ونضوب موارد العيش، أنتجت هذه المصيبة من الآثار ما ستراه في حياة أبي العلاء"! (ص 467-468). وما كان بمقدور طه حسين أن يأتي بهذا الوصف الدقيق لحال المعري الكفيف لو لم يمر العميد نفسه بها، بل بدت في بعض جوانبها تنطبق عليه أكثر مما تنطبق على المعري. 
ومن حسن حظ العميد أنه نأى بنفسه عن أن ينتهج حياة أبي العلاء المعري في الزهد وفي المأكل والمشرب وعدم الزواج، بعد سفره إلى فرنسا، وليمد الله في عمره فوق الثمانين. وفي هذا الصدد يتحدث إلى المذيع طاهر أبوزيد قائلاً:"... لقيت هناك زوجتي فأحببتها، وبُعد بي هذا عن مذهب أبي العلاء الذي لم يتزوج قط، والذي يُقال أنه أمر أن يُكتب على قبره حين يتوفى: هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد. وكنت أود أن أعيش كما عاش أبو العلاء، أحرّم نفسي كل ما يتصل بالحيوان من اللحم واللبن والبيض والسمك، وما إلى ذلك، وأكتفي بالخضر ولاأتزوج. لكني لقيت هذه الفتاة وانحرفت بي عن ذلك انحرافاً تاماً، ولست أكره هذا الأنحراف، وإنما أحبه أشد الحُب، ووجدت فيه السعادة كل السعادة والحمد لله.".
ولعلنا نجد في الفقرة التي عبٓر فيها أبدع تعبير عن انعدام التكافؤ بين الشاعر الكفيف والشاعر المبصر بالقول : "فإن تعاطى صناعة الشعر أو الوصف فإن هذا الحرمان قد استتبع ضعف خياله، وحال بينه وبين مجاراة الشعراء والواصفين فيما يتنافسون فيه، إلا أن يكون مقلداً أو محتذياً"سبباً رئيساً من أسباب هجره لصناعة الشعر دون أن يبوح ذلك علنياً عندما سئل عن أسباب تركه الشعر. ولعل هذا بالضبط ما عناه أيضاً في رده على هنري بركات عندما زاره ليستأذنه في إخراج روايته" دعاء الكروان" بأن الرواية لا تصلح فيلماً لأنها خالية من الصور.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .