العدد 5471
السبت 07 أكتوبر 2023
banner
دلالات إضراب عمال السيارات الأميركية
السبت 07 أكتوبر 2023

مع دخول الأسبوع الرابع لإضراب عمال السيارات في الولايات المتحدة، ما برحت المفاوضات شاقة بين نقابات العمال وأصحاب الشركات، ولا يلوح في الأفق حتى اللحظة انتهاءه بما يرضي المضربين، ما دفع نقابة عمال السيارات المتحدة UAW إلى توسيع إضرابها قبل أيام ليشمل - بالإضافة إلى مصنع "ستيلانتس" - مصنعي "جنرال موتورز" و"فورد"، ومن أبرز مطالب المضربين: زيادة الأُجور بنسبة 46 % على مدى أربع سنوات، على أن تسبقها زيادة فورية بنسبة 20 %، مع تحسينات في الرعاية الصحية واستحقاقات التقاعد، وإعادة علاوة غلاء المعيشة، واستعادة مزايا المعاشات التقاعدية الثابتة، ومما زاد من حنق المضربين أن الأرباح الهائلة التي جنتها شركات السيارات في السنوات الأخيرة لم تنعكس البتة على تحسين أوضاعهم!
وفي وقت لاحق انضم سبعة آلاف عضو في أكبر نقابة لعمال السيارات إلى المضربين ضد الشركات الثلاث الكبرى (فورد، وجنرال موتورز، وستيلانتيس)، في مدينة ديترويت، بعد أن حض رئيس اتحاد عمال السيارات "شون فين" عمال مصنعي "فورد" و"جنرال موتورز" في شيكاغو وميشيغن بالانضمام إلى الإضراب، وفي المقابل فإن "جنرال موتورز" و"فورد" صعدتا من الأزمة مؤخراً بإعلانهما أنهما ستسرحان 500 عامل آخر في وسط غرب الولايات المتحدة، بذريعة تأثر بعض المنشآت بالآثار السلبية المترتبة على استمرار الإضراب.
ويكتسب هذا الإضراب أبعاده السياسية في وقت تواجه فيه الإدارة الأميركية أسوأ أزمة داخلية تاريخية على مختلف الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ انتهاء الحرب الباردة أواخر القرن الماضي، ومن مظاهر هذه الأزمة انقسام المجتمع الأميركي تحت تأثير تآكل النظام الديمقراطي، وتنامي النزعات العنصرية، وإمعان الإدارة الحالية في الصرف على الحروب الخارجية، ما يستتبع زيادة الإنفاق على التسلح العسكري الذي لا تستفيد منه سوى شركات الأسلحة بمضاعفة أرباحها، سيما في ظل الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة التي طال أمدها، وطالت معها إمدادات الإدارة الأميركية لدعم الجانب الأوكراني بعشرات المليارات من الدولارات، وهذا ما يفاقم بدوره الأزمة الاقتصادية وتدهور الأحوال المعيشية ليس للطبقة العاملة والطبقات الفقيرة فحسب، بل والطبقة الوسطى أيضاً.
ولعل من المفيد لاستيعاب الدلالات السياسية والاجتماعية التي تكتسبها المعركة الراهنة التي يخوضها المضربون في مواجهة أرباب الشركات، التذكير سريعاً بالخبرات والتقاليد التاريخية التي امتلكتها نقاباتهم في ساحات الإضرابات. فلقد كان واحداً من أشهر الإضرابات التاريخية التي خاضه عمال شركات السيارات قد جرى في مايو 1894 عندما أضرب موظفو شركة "بولمان بالاس" للسيارات في شيكاغو احتجاجاً على تخفيض الأُجور وإقالة ممثلي النقابات، وجرى ذلك في ظروف تنامي الحركات اليسارية والاشتراكية ولم تكن الحركة العمالية النقابية الأميركية بمعزل عن تأثير الحركات اليسارية والاشتراكية في أُوروبا، ولعل أشهر محطة من محطاتها التاريخية ما جرى في مدينة شيكاغو في الأول من مايو 1886 من أحداث دامية خلال الإضراب التاريخي الذي شارك فيه أكثر من 300 ألف عامل مطالبين بثماني ساعات عمل فقط، وقد لجأت الشرطة إلى إطلاق نار على تجمع للمضربين في الثالث من الشهر نفسه، ما أدى إلى مقتل عدد منهم واعتقال العشرات، وصدرت أحكام بالسجن المؤبد لعدد منهم، فيما صدر حكم تنفيذ الإعدام في ثمانية منهم، وعلى رأسهم القائد العمالي أوغست سبايسي. وفي مؤتمر الأُممية الثانية 1890 بباريس الذي شارك فيه اتحاد العمل الأميركي تقرر جعل يوم الأول من مايو عيداً عمالياً عالمياً، تكريما لضحايا إضراب العمال الأميركيين.
ومع أن معظم دول العالم أقرت الاحتفال بهذا اليوم، إلا أن الولايات المتحدة تمكنت طبقتها السياسية الحاكمة من شق الحركة النقابية العمالية والدفع بتحديد يوم آخر يُطلق عليه "عيد العمل"، على أن يصادف يوم الاثنين من الأسبوع الأول لشهر سبتمبر، واليوم ثمة مواقع إعلامية غربية وأميركية عديدة، ومنها بي بي سي البريطانية وقناة الحرة الأميركية، باتت تعترف بالغبن اللاإنساني التاريخي الذي وقع على العمال الأميركيين، ففي تقرير للبي بي سي على موقعها تذكر: "كانت ظروف العمل مريعة والأُجور متدنية، وساعات العمل طويلة، وأصبحت الإضرابات العمالية في العقد الثامن من القرن التاسع عشر شائعة جداً. وكان من بين قادة الحركة العمالية الأميركية عدد كبير من الاشتراكيين والشيوعيين وغيرهم من اليساريين الذين يؤمنون بقضية القضاء على النظام الرأسمالي من أجل إنهاء الاستغلال، وكان العديد من هؤلاء القادة مهاجرين من أُصول ألمانية"، وتنقل قناة الحرة في تقرير لها بمناسبة أول مايو الماضي عن موقع Share America التابع لوزارة الخارجية الأميركية: "إنه بحلول القرن الـ 19 دفعت ظروف العمل السيئة العمال إلى المطالبة بتحسين ظروف عملهم، ولعبت النقابات العمالية دوراً في إرساء تدابير حماية العمال بعد ذلك".
وليس أدل على الأهمية السياسية التي يكتسبها الإضراب في توقيته الراهن من دخول الرئيسين المتنافسين، الحالي جو بايدن والسابق دونالد ترامب، على خط الأزمة لخطب ود العمال المضربين، ولأول مرة في تاريخ الرؤساء الأميركيين يدخل الرئيس بمشهد سريالي من التملق السافر إلى حلبة المضربين في ولاية ميشيغان معتمراً قبعة نقابة "عمال السيارات المتحدين" UAW، حاملاً مكبر الصوت، معلناً تضامنه مع المضربين، ومذكراً بالتضحيات التاريخية التي قدموها، ومؤكداً حقهم في زيادة كبيرة في رواتبهم! أما منافسه ترامب فقد سخر من مبادرته، معلناً هو الآخر عن تضامنه مع العمال المضربين مخاطباً عمال نقابة UAW مؤكداً حقوقهم، ومعترفاً بأنهم من بنوا البلد، وأنهم بدون إضرابهم سيصبحون في غضون عامين عاطلين عن العمل، مضيفاً: أريد مستقبلاً يحمي العمالة الأميركية وليس العمالة الأجنبية". وهكذا في مشهد مثير للسخرية ومدعاة للضحك من شر البلية، يعلن الرئيسان الممثلان لحزبي الرأسمالية في السلطة (الديمقراطي والجمهوري) تبنيهما حقوق الطبقة العاملة.. وعش رجباً ترى عجباً!.
 
كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .