لا أعتقد ثمة مجلة أدبية عربية حظيت بشهرة واسعة في عالمنا العربي، ولعبت طوال النصف الثاني من القرن الآفل دوراً في منتهى الأهمية، ليس على الصعيد الأدبي فحسب، بل وعلى مختلف الأصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية مثل مجلة "الآداب" اللبنانية التي أسسهاالأديب الراحل سهيل إدريس أوائل الخمسينيات. ولعل القليلين هم من يعلموا بأن المحفّز الأول لإصدارها كان عميد الأدب العربي طه حسين، وهذا ما يرويه إدريس في مقال له في مجلة"العربي" الكويتية (عددأكتوبر 2003).يحكي إدريس أنه قرأ "الأيام" لطه حسين لأول مرة وهو لما يزل في العاشرة من عمره، ويشرح كيف تأثر أشد التأثر بكل جوارحه وأحاسيسه بوقائعها كمالو أنه عايشها، إلى درجة أنه تمنى لو يحاكيها في حياته، وأن روايته" الخندق العميق" تروي تجربته المشابهة لتجربة طه حسين في هذا الشأن، حيث تخلى إدريس عن زيه الديني بعد تخرجه في المعهد الديني، ثم تمرد على القالب الذي أراد أهله أن يعلبوه فيه، وسافر إلى فرنسا لنيل الدكتوراه في الأدب العربي من السوربون وحصل عليها 1940، وإذ انبهر في باريس بكل التيارات الأدبية والفكرية الغربية فإنه -كطه حسين- استوعبها دون أن ينساق بتذويب هويته في أي منها . وفي هذا الوقت لم يكن قد اطلع -على ما يبدو- على تجربة المفكر اللبناني الراحل حسين مروة الذي كانت مسيرته التعليمية أثناء دراسته في النجف الأشرف أنتهت مشابهة لكليهما، ولم يكن مروة قد رواها بعد، وإلا لكان إدريس على الأرجح أشار إليها أيضاً . وقد اتجه بعد عودته من باريس إلى العمل في الصحافة وتأليف القصص والروايات والمسرحيات. لكن يظل الدور الأهم لإدريس يتمثل في تأسيسه لدار الآداب، وفي جعل مجلة "الآداب" منبراً مفتوحاً لكل التيارات العربية الحديثة على اختلاف مذاهبها، هي التي دارت على صفحاتها أروع المعارك النقدية والأدبية من الخليج إلى المحيط، دون أن يوظف مجلته للانحياز لمذهب بعينه، مستفيداً في ذلك من الجو الليبرالي الصحي الذي عاشت في ظلاله الصحافة اللبنانية لعقود طويلة بعد الاستقلال
ويروي إدريس أن أول ماراودته فكرة إصدار مجلة "الآداب" كان إبان إقامته في باريس للدراسة،وخطرت هذه الفكرة بباله إثر احتجاب مجلة "الكاتب" المصرية التي كان يشرف عليها طه حسين. إذ كان قد أرسل إليه وهو في الرابعة عشرة من عمره ترجمة رواية "كولن الكبير" للفرنسي ألين- فورنيه، ولم يتوقع قبول نشرها، لكنه صُعق فرحاً بقبول العميد نشرها، لولا احتجاب المجلة بعدئذ. وكان إدريس يحلم بأن بجعل "الآداب" تسد فراغ " الكاتب" المصرية التي توقفت عن الصدور، وراسل طه حسين بهذا الشأن ولقي منه كل التشجيع والتحفيز.كما كان يتوق بشدة لزيارته في القاهرة، بعد أن كان يأمل ملاقاته في المؤتمر الأول للأدباء العرب في لبنان 1954 حيث تعذر حضور العميد حينئذ، وعندما زاره في القاهرة وجّه له دعوة لإجراء مناظرة بينه وبين الأديب اليساري اللبناني المعروف رئيف خوري تحت عنوان" أيكتب الأديب للخاصة أم للعامة؟" وقبِل طه حسين الدعوة، وسلمه عند انصرافه ترجمته الرواية الفرنسية التي لم تُنشر لسبب توقف "الكاتب" وكان مر على وجودها بحوزة العميد عشر سنوات، ما أثار ذهول إدريس الذي حسِب أن مخطوطة الترجمة قد طواها النسيان أو آل مصيرهى إلى سلة القمامة، وأردف العميد قائلا: يا أستاذ نحن لا نضيّع جهود الأدباء. أما المناظرة التي جرت بعدئذ بين طه حسين ورئيف خوري في بيروت قفقد كانت بالغة الأهمية وحدثاً غير مسبوق في تاريخ المعارك الادبية التي خاضها حسين على المستوى العربي خارج بلاده، وسنتناولها لاحقاً.
ومما يرويه سهيل إدريس أنه في إحدى زياراته بصحبة زوجته لمنزل طه حسين ، ولما عرف أنها تترجم كتباً فرنسية إلى العربية أخذ يحدثهما، من باب المداعبة، بالفرنسية بطلاقة مدهشة لاتقل عن طلاقته في التحدث بالعربية الفصحى، ثم تعاقدت زوجته معه على أن تنشر دار الآداب " الأيام"بجزئيها تحت عنوان " مذكرات طه حسين" ووافق الأخير على ذلك.
وكان العميد لا يحبذ السفر بالطائرة ويؤثر عليها الباخرة، وهكذا كان يفعل في إجازاته الصيفيةإلى أوروبا بصحبة زوجته،وكانت الباخرة التي تقلهما ترسو عادة في مرفأ بيروت لبضع ساعات،وكان الممتع في هذه الرحلات أن يركب على متنها لزيارته رهط من كبار الأدباء والمثقفين اللبنانيين،ومن بينهم سهيل إدريس نفسه، حيث يحرص العميد على السؤال عن أصدقائه اللبنانيين ولو لم يلتق ببعضهم سوى مرة واحدة لبضع دقائق. ويذكر إدريس بأنه عندما أخبره بوفاة رئيف خوري تأثر تأثراً شديداً. والواقع أن ماكتبه سهيل إدريس من ذكريات عن علاقته بطه حسين إنما هي شهادة تدل على احتضان العميد وتشجيعه المواهب الأدبية العربية خارج بلده حيثما تسنى له الأمر لأي نموذج بستعين به أو يأنس لرأيه في غرض أدبي ما.