لماذا كل هذا الغضب الذي تشهده فرنسا؟ قد يبدو الجواب عن هذا السؤال بسيطا: الخلاف العميق حول تمديد سن التقاعد. لكن هل هذا الأمر وحده يفسر حجم الغضب وامتداده زمنيا؟
يبدو هذا الجانب مجرد عنوان يختزل صراعا سياسيا واجتماعيا أعمق بكثير، ولنتذكر هنا الاحتجاجات العارمة لحركة السترات الصفراء، التي خرجت في البداية للاحتجاج على ارتفاع أسعار الوقود، ثم امتدت مطالِبها لتشملَ مواجهة الإصلاحات الضريبية التي أقرتها الحكومة، وأضرت بالطبقة العاملة، كما نستذكر قبل ذلك انتفاضة الضواحي في العام 2005م وتداعياتها الخطيرة. هذه الحركات الاحتجاجية الممتدة مترابطة - وإن اختلفت أشكالها ودوافعها - لأنها تشكل حالة احتجاج على التوجهات والسياسات الحكومية النيوليبرالية، من قبل القوى المتشبثة بامتيازات دولة الرعاية.
ومن الواضح أن التوجهات الحكومية باتت تفضل خفض الدعم المقدم لهذه الخدمات التي تؤمن قدرا كبيرا من الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي في مجتمع رأسمالي، بدلا من البحث عن موارد جديدة لتمويل هذه الخدمات، لذلك يمكن فهم الحركات الاحتجاجية على أنها نضال ممتد لمنع انهيار ما تبقّى من النموذج الاجتماعي الذي يحمي الطبقات محدودة الدخل وحتى الطبقة المتوسطة، حيث يفترض بدولة الرعاية أن تغطي الجميع من خلال أنظمة الرعاية الاجتماعية الوطنية كما تطالب بذلك النقابات في فرنسا، والعمل على إنقاذ أنظمة الرعاية الاجتماعية وتحسينها، بعيدا عن النموذج الرأسمالي الأميركي الذي سيؤدي الأخذ به إلى نهاية الأنموذج الفرنسي، وزيادة المشكلات الاجتماعية التي غذتها سنوات من التقهقر الاجتماعي والاقتصادي وخطاب التهميش والازدراء لمطالب النقابات والشباب، خصوصا وسط إصرار الحكومات على التخفيف من نموذج (دولة الرعاية) الذي بدأ يتبخر مع الأزمات الاقتصادية، وتقدم النموذج الأميركي الفج الذي يبدو أنه في طريقه إلى التعميم، لذلك لا يزال الفرنسيون يناضلون من أجل الحفاظ على مكتسباتهم القائمة ومنع المساس بها.
إن فرنسا الطامحة إلى أن تكون النموذج الأكثر مساواة ومسؤولية في أوروبا يفترض بها أن تمضي قدما نحو تأسيس العقد الاجتماعي الأكثر عدلاً وجاذبيةً ليتحول إلى نموذج يقتدى به، بعيدا عن النموذج الأميركي الذي يفضي باستمرار إلى الأزمات الدورية.
كاتب وإعلامي بحريني