تطرقنا في الجزءين السابقين إلى أهمية التعليم في تعزيز ريادة الأعمال والاقتصاد وبناء القوى العاملة الماهرة وخفض مستويات البطالة الناتجة عن سوء جودة التعليم العام. كما استذكرنا عن بعض الدروس التي تقدمها سنغافورة في تطوير سياسات التعليم لديها والتي ركزت عليها منذ استقلالها في العام 1965. ولم يأت التعليم وحده لتطوير ريادة الأعمال في سنغافورة، بل جاء كذلك عنصر البحث والتطوير في جعل سنغافورة متقدمة بشكل كبير عن البلدان الأخرى النامية والمتقدمة منها. ويعتبر هذا العامل مع العوامل الرئيسة التي تعتمد عليها البلدان المتقدمة في تطوير السياسات التي من شأنها تطوير جميع القطاعات الاقتصادية. وكما ذكرنا، يمكن ملاحظة أنه كلما ارتفع معدل الاستثمار في البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي، كلما زاد معدل التطور والتنمية الاقتصادية بشكل أكبر. وكان متوسط الاستثمار في البحث والتطوير في البلدان المتقدمة بين الـ2 % والـ3 % من الناتج المحلي الإجمالي، في حين كان متوسط النسبة في البلدان الخليجية أقل من الحد الأدنى الذي وضعته منظمة اليونيسكو وهو 1 %.
وقبل تناول موضوع البحث والتطوير وعلاقته بتنمية ريادة الأعمال وقطاعات الاقتصاد، سوف نستذكر تجربة سنغافورة واهتمامها بعنصر البحث والتطوير والتي أدت إلى القوة الاقتصادية التي تتمتع بها سنغافورة اليوم في مختلف قطاعات الدولة:
أدركت سنغافورة أهمية الاستثمار في مجال البحث والتطوير، حيث يلعب الأخير دورا مهما في برامج وطموحات سنغافورة في أن تكون مدفوعة بالابتكار وخلق قيمة مضافة على المستوى المحلي والدولي، بالإضافة إلى تعزيز تنافسية سنغافورة العالمية في القطاعات الحيوية. وضعت سنغافورة استراتيجية وطنية لدعم البحث والتطوير في عدة وزارات ووكالات وطنية بالإضافة إلى المجالات المختلفة كالتجارة والصناعة والتعليم والصحة والزراعة والتكنولوجيا والهيئات الفكرية والبحثية والدفاع من خلال إنشاء The Research, Innovation, and Entreprise Council في العام 2006 يقوم على إثرها بتطوير وتنسيق السياسات الوطنية لتنمية قدرات البحث والتطوير في سنغافورة وإشراك جميع هيئات وأفراد المجتمع كصناع القرار والهيئات الحكومية والقطاع الخاص للمشاركة في وضع أفضل السياسات المبنية على الدراسات والبحوث.
وجاءت النتائج مثمرة حيث أصبحت سنغافورة تنافس العديد من الدول المتقدمة في مجالات التكنولوجيا والتعليم والصحة والابتكار وريادة الأعمال وغيرها من المجالات الحديثة حتى أصبح الناتج المحلي الإجمالي لدولة سنغافورة حوالي 531 مليار دولار أمريكي حسب تقديرات العام 2020. يذكر أن هذا الرقم يعتبر كبير جدا بالنسبة لدولة متناهية الصغر من حيث المساحة والموارد كدولة سنغافورة.
ومن أحد الفوائد التي تتجلى في البحث والتطوير كثيرة في مجال ريادة الأعمال، ومنها التركيز على عمل البحوث والدراسات التي تقوم بها بعض المؤسسات البحثية الحكومية وغير الحكومية في البلدان المتقدمة لإنتاج السياسات والقوانين واللوائح التي من شأنها يمكن أن تحسن من بيئة العمل التجارية واستقطاب الاستثمارات المباشرة الخارجية، وتطوير نظام التعليم والتدريب، والبحث في سبل تطوير نظم الابتكار والمعرفة وكذلك البحث في تطوير قطاعات الاقتصاد والصناعة وغيرها.
البحث والتطوير لا يأتي بين ليلة وضحاها، بل إنه نتاج عمل شهور وسنوات طويلة لإضفاء قيمة وسياسات وابتكارات وصناعات جديدة يمكن أن تدفع عجلة التقدم في قطاعات الدولة. فعلى سبيل المثال، تقوم سنغافورة بدعم البحث والتطوير في القطاع الخاص من أجل دفع عملية الابتكار وإنجاح عملية تصدير المسلع والخدمات السنغافورية إلى الخارج. ففي خلال العشرين سنة الماضية، نمت نفقات الأعمال التجارية السنوية في مجال البحث والتطوير في سنغافورة من 1.5 إلى 5.6 مليار دولار سنغافوري، وتمثل إيرادات البحث والتطوير حوالي 32.1 مليار دولار سنغافوري في الإيرادات السنوية المتولدة. وهذا يعادل 20 مليار دولار تقريبًا بشكل سنوي. تشجع الحكومة السنغافورية أيضًا الابتكار المفتوح، وتشجع التعاون بين الشركات الكبيرة والشركات الصغيرة والمتوسطة والجامعات ومعاهد البحوث لحل تحديات الصناعة.
نظرًا للتمويل والدعم العام لسنغافورة وموقعها التجاري العالمي وفرص الاستثمار والتواصل، فليس من المستغرب أن تُعتبر سنغافورة واحدة من أكثر البلدان إبداعًا في العالم، حيث تحتل باستمرار المرتبة الأولى في العشرة الأوائل في العديد من تصنيفات الابتكار العالمية البارزة (المرتبة الثامنة في 2020 مؤشر الابتكار العالمي والثاني في مؤشر بلومبرج للابتكار للعام 2021) وقد احتلت في المراكز الأولى باستمرار ي تصنيف ريادة الأعمال GEM خلال الأعوام الماضية متقدمة على الدول الكثير من الدول المتقدمة.
وسنطرح في الحلقة المقبلة التطبيق العملي لدعم البحث والتطوير وأهم القطاعات التي ركزت عليها سنغافورة لدعم قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والصحة والزراعة والعديد من المجالات الأخرى المهمة التي جعلت من دولة سنغافورة الرائدة ليس فقط في مجال ريادة الأعمال واستقطاب الاستثمارات، بل في خلق المنافسة في العديد من مجالات الاقتصاد المحلية وتوسيع نطاق أعمالها على الصعيد الدولي.