+A
A-

المازني ومسيرته الإبداعية.. بين الشعر الحزين والكتابة الساخر

حاتم السروي"كان شاعرًا وجدانيًا تموج أشعاره بالأسى والكآبة، ثم تحول إلى كاتب ساخر يتلقى الأحداث والأشخاص والمعاني في دنياه بابتسامةٍ ساخرة ويستهين بصروف الأيام".. بهذه العبارة يحلو للبعض تلخيص رحلة الضلع الثالث في مدرسة "الديوان" غير أن هذا ليس كل ما في الأمر، فحين تفتح المجموعة الأولى التي انتقاها من مقالاته ونشرها عام 1924 واختار لها عنوان "حصاد الهشيم" تقرأ له ما ينبئ عن ثقافته الواسعة التي استقاها من الشرق والغرب معاً على السواء، مضافًا إليها عمق نظرته، فهو مثلاً يحدثك عن "ماكس نوردو" مناقشًا آراءه في مستقبل الأدب، كما يتحدث عن "تاجر البندقية" مسرحية شكسبير التي ترجمها شاعر القطرين "مطران خليل مطران".
وبجانب ما سبق تستطيع أن تنظر إليه بوصفه القاص الواقعي الذي يستمد قصصه الاجتماعية من بيئته، مع تركيزه على التحليل النفسي لشخصياتها؛ حتى أنه في مقدمته لإحداها قال باعتزاز إنها أولاً تستوفي عناصر الفن القصصي، وهي كذلك تعتبر بحثاً سيكولوجيًا. وإنك لو تأملت قصته تلك لوجدته محقاً فيما ذهب إليه، حتى وإن ضعف حركة القصة بعض الشيء، لكنها لا تفقد سَمْتَ الجمال والإبداع، ولعلي إن ذكرت لك ما هي تؤيدني فيما أقول، إنها قصة "إبراهيم الكاتب" للأديب "إبراهيم عبد القادر المازني" المولود عام 1889 والمتوفى سنة 1949م.
مولودٌ جديد في بيتٍ قديم على أطراف القاهرة المتاخمة للصحراء.. إنه "إبراهيم الكاتب" الذي نشأ في أسرة بسيطة الحال، وكان والده "الشيخ عبد القادر" يعمل محاميًا شرعيًا، وينتسب إلى قبيلة عربية يكتسب منها لقبه، هي قبيلة "بني مازن" ولعل ذلك ما جعله من أكبر المدافعين عن "القومية العربية" والداعين إليها بحماس، وقد كتب عام 1935 - أي قبل إنشاء "الجامعة العربية" بعِقدٍ وسنتين- يدعو إلى إنشائها لجمع كلمة العرب؛ ولكي تضمهم هيئة سياسية واحدة توحد صفهم ضد المستعمرين، وقال بالحرف الواحد: "إن القومية العربية لو كانت وهمًا لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقًا".
ورغم إيثاره للكتابة على الشعر؛ إلا أن روح الشعر تطل علينا دائمًا في مقالاته التي لم ينافسه في تميزها أحد، من جهة براعته في وصف مشاعره وأفكاره، وربما حاذاه البعض أو تفوق عليه في جوانب أخرى؛ غير أن الجانب الوجداني عند المازني كان محور تميزه ومجلى إبداعه؛ ولم لا وهو الشاعر مرهف الحس عميق التأثر؟!.
ولعل هذا ينقلنا إلى بداياته الأولى؛ إذ بدأ المازني كما نعرف شاعرًا ثائرًا على "مدرسة الإحياء" راميًا إلى تجديد الشعر العربي، وسبيله إلى هذا - كما يرى- أن ينظم الشعر مع زميله "عبد الرحمن شكري" على شاكلة ما ينظم الأوروبيون أشعارهم الغنائية.
ولكن ما علاقة شاعر عربي إسمه "إبراهيم المازني" بقصائد الأوروبيين؟ نعم، لقد تلقى المازني تعليمه في "مدرسة المعلمين" وفيها ظهر ميله للأدب، فرأيناه يعكف على قراءة كتب الجاحظ، وأغاني الأصفهاني، وأمالي أبي علي القالي، والكامل للمُبَرد، وكلها كما نرى من عيون النثر العربي القديم، وهكذا فعل مع الشعر؛ إذ قرأ لابن الرومي والمتنبي والشريف الرضي ومهيار الديلمي، وغيرهم...
وإلى هذا التبحر في التراث الأدبي القديم عند العرب، وجدناه بفضل اهتمام "مدرسة المعلمين" باللغة الإنجليزية وآدابها يقبل على كتب الأدب الإنجليزي المقررة عليه، وعلى غير المقرر من عيون الشعر الإنجليزي عند "شيلي" و"شكسبير" و"بيرون" وعيون القصص والروايات عند "شارلز ديكنز" و"والتر سكوت" ثم عيون النقد عند "وليم هازلت" و"سانتسبري" وهكذا.
وبفضل هذا القراءة المتعمقة والمزدوجة في ذخائر الشرق ومآثر الغرب، تكوَّن لدى المازني نمطٌ جديد ومختلف من التفكير في الحياة عمومًا، وفي الأدب خصوصًا باختلاف قوالبه وأنواعه، ونلحظ هذا النمط المستحدث في مقالاته المنشورة بجريدة "الجريدة" والتي كتبها أثناء طلبه للعلم في "مدرسة المعلمين" الرائدة بحق، وحسبك أنها خرجت لنا أمثال المازني وغيره من العمالقة.
ونعرف من سيرة المازني أن صداقةً متينة ربطت بينه وبين الشاعر"عبد الرحمن شكري" وبتأثير تلك الصداقة شرع المازني في نظم الشعر بأسلوبٍ جديد يناسب شبابه الثائر الوثَّاب، وهكذا كتب الشعر مع "شكري" على ضوء ما تأثرا به من شعر الإنجليز الذين احتل أدبهم فؤادهما، كما احتلت جنودهم مصر في ذلك الوقت.
ثم وجدنا "شكري" ينشر أول محاولة لجماعة "الديوان" التي تألفت منه ومن المازني و"العقاد" الذي انضم إليهم بعد قليل، وكانت هذه المحاولة عبارة عن ديوان "ضوء الفجر" الذي نال إعجاب المازني، حتى أنه من تحمسه للتجربة لم يكتفِ بالإشادة، بل انقاد إلى شيءٍ من النقد العنيف لتجربة "حافظ إبراهيم" ومن سوء حظه أن "وزير المعارف" حينها كان صديقًا لحافظ وهو السيد "أحمد باشا حشمت" وكان يهدد المازني بمعاقبته على نقده لحافظ، ثم نفذ وعيده وتهديده وفصله من "المدرسة الخديوية" التي كان يعمل بها مدرسًا للترجمة، وكان يترجم لطلابه قطعاً من "كليلة ودمنة" إلى الإنجليزية، في الوقت الذي يترجم فيه أيضًا من الإنجليزية نماذج من عيون الشعر والنثر المكتوب فيها.
على أن "أحمد حشمت" لم يفصل المازني من "الخديوية" ليصبح في الشارع، كل ما في الأمر أنه نقله إلى التدريس في "دار العلوم" إلا أن"المازني" بنفسه المرهفة وروحه الحزينة الحساسة يأنف من هذا النقل ويقدم استقالته.
وسرعان ما ينضم المازني إلى صديقه "العقاد" في العمل بـ "المدرسة الإعدادية" ليبقى فيها أربع سنوات، هي السنوات التي قامت فيها الحرب العالمية الأولى، وهي أيضًا التي شهدت إخراجه للجزء الأول من ديوانه، ثم الجزء الثاني في عامي 1914-1917 على التوالي.
والديوان عموماً لم يكن على غرار الشائع في عصره، فلا وطنية ولا سياسة ولا اهتمام بالمجتمع، وإنما الشاعر هنا يضرب صفحًا عن العالم بما فيه، وينكب على ذاته، مخرجًا لنا تجربة نفسية بحتة ليس فيها إلا الألم والحزن والندب والنواح.. انفجارات وجدانية ليس إلا !.
لكن..لأنه قارئ نَهِم، ولأنه يتقن اللغة الإنجليزية؛ فقد انفتحت أمامه بوابات الأدب الغربي على مصاريعها، ومن هنا أخذ يطالع كل ما وقعت عليه يده من كتابات للإنجليز أو لغيرهم مما كُتِبَ بلغتهم التي يتقنها، وكان ممن قرأ لهم "مارك توين" الكاتب الأمريكي الساخر، و"هاتزيباشيف" الكاتب الروسي الذي ترجم له قصة "سانين" جاعلاً عنوانها في العربية "ابن الطبيعة".
ومن تلك اللحظة ينقلب الشاعر الرومانسي الحزين إلى كاتب فَكِه تخرج لنا تأملاته الساخرة في "صندوق الدنيا" عام 1929، ويستعرض معايب المجتمع بروحٍ مرحة لا تستفز القارئ بل ربما أضحكته على نفسه وهو راضٍ ومستمتع، وسيرة "إبراهيم الكاتب" أو المازني بعد هذا كله ربما طرحت علينا سؤالاً: هل نحن في حاجة حقيقية إلى كتابة ساخرة تضع البسمة على وجه قارئها وتبصره بعيوبه في الوقت نفسه؟ أعتقد أن الإجابة بنعم، ورغم هذا أترك الإجابة للسادة النقاد فربما أفادونا في هذا المنحى؛ وأياً كانت إجابتهم فالذي لا شك فيه أن أدب المازني الساخر قام بدوره على أكمل وجه ولا يزال مثابةً لعشاق الأدب ورواد الكلمة.​