العدد 4981
السبت 04 يونيو 2022
banner
خروشوف وحرب يونيو 1967
السبت 04 يونيو 2022

لئن اُشتهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالخروج أحياناً عن مقتضيات البروتوكول لتوجيه رسائل محددة - إيجابية أو سلبية لضيوفه الأجانب، فإن الزعيم السوفييتي الراحل نيكيتا خروشوف كان يبزه في هذا الشأن بعدم التورع في الخروج عن مقتضيات اللباقة الدبلوماسية، ولعل حادثة طرقه المنضدة التي أمامه بفردة من حذائه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة خريف عام 1960 من أكثر المواقف غرابة في هذا الصدد، وذلك احتجاجاً على كلمة مندوب الفلبين التي هاجم فيها ما وصفه انعدام الحقوق السياسية والمدنية في دول أوروبا الشرقية حليفة موسكو. على أن ثمة موقفاً آخر لخروشوف لا يقل غرابة عن تلك الحادثة، وقد جرى قبيل العدوان الثلاثي على مصر 1956، ويرويه ابنه سيرغي خروشوف الذي كان أحد شهوده، ففي أثناء استضافة أنطوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني لخروشوف في منزله الريفي بتشيكرز، فجأة استدار ببصره لزوجة إيدن موجهاً لها سؤالاً يفتقر للباقة وآداب الضيافة: هل تعلمين مدام ايدن كم رأساً نووياً يلزم جزيرتكم لتدميرها؟ ووسط ذهول الحاضرين الذين صُعقوا بسؤاله استطرد مكرراً السؤال: ألا تعرفين؟ أنا أعرف، يلزم جزيرتكم خمسة رؤوس نووية فقط وهي موجودة لدينا!

وقتذاك لم تكن لندن وباريس تملكان أسلحة نووية بعد، وحينما بدأ العدوان الثلاثي على مصر وجه الاتحاد السوفييتي مذكرة إنذاره الشهيرة لدول العدوان لوقفه فوراً خلال 24 ساعة، وطلب خروشوف من سفيره في لندن أن يسلمهم نسخة من المذكرة، وأن يُذكّرهم بالدردشة "الودية" التي جرت بجوار المدفأة في البيت الريفي في "تشيكرز"، غامزاً بذلك بما تخللها من دعابته الصاعقة لزوجة إيدن في سؤاله لها كم صاروخا نوويا يلزم لسحق وطنهم بالكامل!

ويكشف الباحث الروسي الكسندر أوكوروف الذي اطلع على وثائق سرية من الأرشيف السوفييتي على معلومة لعلها غير معلومة لدول العدوان الثلاثي، ومفادها أن موسكو شاركت سرياً في حرب 1956 بمقاتلات جوية أرسلتها مقدماً للجيش المصري، وكانت لهذه المشاركة المحدودة في الحرب - إلى جانب انذارها المشار إليه - الأثر الحاسم في إحباط العدوان الذي ظهر عبدالناصر بعده بطلاً وطنياً وقومياً أمام شعبه والشعوب العربية جمعاء.

وكما ذكرنا غير مرة لم يكن الزعيم المصري جمال عبدالناصر ينوي الدخول في حرب مع إسرائيل عام 1967، ليس لعلمه بغياب التوازن العسكري بين بلاده وإسرائيل فحسب، بل ولعدم جاهزية جيشه لخوض حرب تحت قيادة صديقه المشير عبدالحكيم عامر الذي أثبت بامتياز فشله في قيادة الجيش المصري في حرب 1956، وعندما رأى عبدالناصر أن لا مناص من خوض حرب يونيو كان يعوّل على تكرار سيناريو 56 في إنهاء الحرب؟ لكنه لم يتنبه بأن الظروف الدولية التي استجدت عام 1967 تختلف تماماً عن الظروف التي كانت سائدة 1956، ففي الحرب الأولى لم يكن لواشنطن موقف إيجابي مؤيد للعدوان لتجاهل أطرافه إياها، ولعدم وجود مصلحة مباشرة لها فيها، في حين غدت في الحرب الثانية حليفاً قوياً لإسرائيل وداعماً له بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي.

أكثر من ذلك فإن خروشوف زعيم الاتحاد السوفييتي - حليف مصر الدولي -والذي وقف بقوة مسانداً لها سياسيا وعسكرياً إبان العدوان الثلاثي، والذي لطالما اتبع سياسة "حافة الهاوية" مع غريمته الولايات المتحدة، كان أخطرها ابان أزمة الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا، خريف 1962.

 لم يعد موجوداً على قمة الدولة السوفييتية بعد إزاحته من قِبل رفاقه عنها 1964، حيث حل محله ليونيد بريجنيف المعروف باتباعه سياسة الحذر الشديد من المواجهة مع الولايات المتحدة.

ومع أن هزيمة مصر 1967 تعود لأسباب داخلية سياسية وعسكرية في المقام الأول، إلا أن تردد موسكو في اتخاذ موقف تحذيري حازم تجاه إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة من مغبة احتلال الأولى أراض عربية جديدة، لما سيترتب عليه من نتائج خطيرة، عرّض مصر والعالم العربي ليس لنكسة خطيرة فحسب، بل وإلى وفاة عبدالناصر كمداً، وانكسار مشروعه القومي، فضلا عن خسارة السوفييت أهم مناطق نفوذهم الاستراتيجية في العالم، ومن ثم بدايات انحسارهم النهائي في المنطقة، ما أدى في النهاية -إلى جانب عوامل أخرى متعددة - إلى انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه مطلع التسعينيات.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية