في مثل هذا اليوم تحل ذكرى مرور 74 عاماً على نكبة فلسطين العربية وتأسيس "إسرائيل" التي سرعان ما حظيت بالشرعية الدولية، وعلى عكس ما شاع وترسخ ذهنياً في الذاكرة العربية بأن الدول الكبرى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي التي لعبت الدور الحاسم في دعم إسرائيل خلال حرب 48، فإن الاتحاد السوفييتي لم يكن في طليعة الدول الكبرى التي سارعت بالاعتراف الكامل بها بعد ثلاثة أيام من إعلانها فحسب، بل وكان صاحب الفضل الأول في انتصارها على الجيوش العربية والمقاومة الفلسطينية من خلال دعمها سياسياً ومدها بالأسلحة الثقيلة والمقاتلات والعتاد والرجال، وهذا ما استخلصه من دراسته لوثائق الكومنتيرن والأرشيف السوفييتي البروفيسور المستعرب في جامعة العلوم الإنسانية بموسكو غريغوري كوساتش، ومع إشادته بمؤرخ اليسار المصري رفعت السعيد والكاتب اللبناني محمد دكروب فإنه يعتب على المؤرخين والباحثين اليساريين العرب عدم اهتمامهم بالاطلاع على وثائق الكومنتيرن بعد أن رفع غطاء السرية عنها.
ويكشف أن "البرافدا" نشرت هذا التعليق في 30 مايو 1948: "ينبغي القول بوضوح ان العرب بشنهم حربا ضد دولة إسرائيل الفتية لا يقاتلون من أجل مصالح قومية ولا من أجل استقلالهم، والشعب السوفييتي بالرغم من كل تعاطفه مع الشعب العربي يدين سياستهم العدوانية التي يتبعونها بحق إسرائيل"! في حين جاء في خطاب أندريه جروميكو رئيس الوفد السوفييتي للأمم المتحدة عام 1947:"إن مئات الآلاف من اليهود يجوبون الآفاق في بلدان أوروبا بحثاً عن مأوى. لقد آن الأوان لتقديم العون لهؤلاء الناس، إن العرب يدعون أن تقسيم فلسطين ظلم تاريخي، لكن لا يمكننا موافقتهم في هذه الرؤية، إذ يكفي أن الشعب اليهودي كان مرتبطاً بايرتز إسرائيل على امتداد فترة طويلة". والحال أن هذا الموقف الغريب الذي انساق إليه السوفييت لم يكن إلا بسبب أخطاء قاتلة في حساباتهم وأوهام استبدت بهم بأن تقف الدولة العبرية الجديدة إلى جانبهم في وجه الغرب ومصالحه في الشرق الأوسط، على أنهم لم يعوا خطأ هذا الرهان إلا في منتصف الخمسينيات مع صعود الزعامة الناصرية.
ويمكن الاستنتاج من دراسات أولئك الباحثين السوفييت كما قدموا خلاصاتها في مقابلات أجرتها معهم قناة RT أن السياسة السوفييتية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في الشرق الأوسط مرت بثلاث مراحل متميزة:
الأولى: وهي التي كانت أواخر عهد ستالين ووقفت خلالها موسكو إلى جانب إسرائيل معولة عليها بأن تكون دولة "اشتراكية" موالية للاتحاد السوفييتي ومناوئة للإمبريالية، واتخذت موقف المتشكك في جامعة الدول العربية في ظل أنظمتها المعروفة حينذاك، واستمرت في هذا الموقف حتى خلال السنوات الأولى من ثورة يوليو المصرية.
المرحلة الثانية: وهي التي تخللت عهد الزعيم نيكيتا خروتشوف حيث شهدت السياسة السوفييتية انعطافة نحو تأييد ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر، ولاسيما بعد موقفه المناوئ للأحلاف العسكرية الغربية في المنطقة وتأميم قناة السويس، وتم مده بصفقة الأسلحة التشيكية. وخلال العدوان الثلاثي لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر 1956 لم يكتفِ الاتحاد السوفييتي بإنذاره الشهير، بل تكشف الوثائق السوفييتية السرية أن موسكو مدت القاهرة بطائرات حربية شارك في عدد منها طيارون سوفييت في التصدي للطائرات البريطانية والإسرائيلية.
المرحلة الثالثة: وهي التي عُرفت بمرحلة الجمود طوال حكم الرئيس ليونيد بريجنيف، فمع أنه سار على نهج سلفه خروتشوف في منح الدول القومية -ومنها مصر وسوريا - كل أشكال الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي، إلا أن سياسته اتصفت بالحذر الشديد من المواجهة مع الولايات المتحدة والبطء في اتخاذ القرارات إزاء تطورات الأوضاع في الصراع العربي الإسرائيلي مهما بلغت درجة خطورتها على القضية الفلسطينية والأمن القومي العربي، وقد تكشّفت عواقب هذا الموقف خلال حرب يونيو 1967 التي حذّر فيها مصر من أن تكون هي البادئة بإطلاق النار مقابل ما تعهدت به واشنطن لموسكو بأن إسرائيل لن تكون البادئة بالحرب، ودفعت القاهرة وموسكو ثمناً باهظاً جراء هذه الخديعة الأميركية حيث كانت إسرائيل هي البادئة بالحرب التي مُني بها الجيش المصري بهزيمة قاصمة، فسارعت موسكو لتزويد الجيش المصري بأحدث الأسلحة لإعادة بنائه، كما شارك طيارون سوفييت ضد المقاتلات الإسرائيلية كانوا اُرسلوا كمدربين سوفييت في حرب الاستنزاف 1967 – 1970، كما شارك بعضهم الآخر في حرب أكتوبر 1973.
والمفارقة غير المفهومة أن المستعرب السوفييتي غريغوري إذ يحض المؤرخين اليساريين العرب على أهمية دراسة تلك الوثائق بعد رفع السرية عنها قائلاً: "واليوم عند الخوض في هذه المسائل لا داعي للمخادعة والمراءة"، فإنك تجد بعد أكثر من 30 عاماً من انهيار الاتحاد السوفييتي في بعض وسائل الإعلام اليسارية - وليس كلها - من يجفل من نشر حقيقة تلك الأخطاء السوفييتية القاتلة الصادمة رغم ظهور وثائقها الدامغة!.