+A
A-

"زيارة السيدة العجوز" لدورنيمات... الكوميديا المعتمة

لا أعرف ما الذي دفعني لقراءة مسرحية "زيارة السيدة العجوز" للكاتب الألماني فريدريتش دورنيمات لثالث مرة، والتي كتبها العام 1956 وتعتبر من روائع الأعمال المسرحية التي قُدِّمت على كثير من المسارح العالمية وتصدى لإخراجها أسماء لامعة، كما قدّمت على السينما.
أهمية هذه المسرحية ترجع إلى أنها من المسرحيات التي تمثل إحساس الإنسان الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تمثل تصدع الإنسان الألماني وتصدع كيانه الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.
لقد حدد دورنيمات هدفه من المسرح عندما قال إن هدفه هو صياغة المكان في أدب يتجه ناحية الكلمة، وفسر ذلك بأن كل شيء عند الإغريق كانت له أهميته لأنه كان محدداً في المكانة، أما الآن فإننا نعيش في اللامكان يحيط بنا ما لا جوهر له ولا معنى، لهذا كان علينا أن نخلق مكاناً بالفعل وأن تعدو الكلمة فتعبر عن الكل، وقد اندمج وأصبح شيئاً واحداً متحداً.
مسرحيات دورنيمات مسرحيات واقعية، موغلة في الواقعية ولا أدل من ذلك من قوله نفسه عن مسرحية "زيارة السيدة العجوز". كتبها إنسان لا يباعد بين نفسه وبين هؤلاء الناس ولا يعرف بالتالي ما إذا كان يتصرف على نحو آخر لو وضع موضعهم.


أما مسرحيته "زيارة السيدة العجوز" فهي من النوع الكوميدي، ويفسر دورنيمات ميله إلى الكوميديات بقوله: إن الكوميدي هو النوع الوحيد الذي يتفق معنا، لقد انساق عالمنا إلى المهزلة انسياقه إلى الحروب والقنابل، وتجري حوادث المسرحية في مدينة جولين الألمانية وهي مدينة صغيرة تركتها الحرب والعدم سواء، ولعل أدق تعبير على ذلك ما قاله أحد أشخاصها "نحن همسات أغصان، أحلام قديمة".
تدور قصة المسرحية باختصار حول المرأة الثرية كلارا التي تعود إلى بلدتها بعد غياب طويل بسبب اعتداء أحد الرجال عليها وإنجابها منه طفلاً وإنكاره نسبه له. وعندما تعود توظِّف أموالها وتغري كل من في البلدة بقتل ذلك الرجل، وهنا تبدأ الصراعات، بحيث يريد كل شخص قتل زميله، ويحاول بعض الأفراد التمسك بالإنسانية ومساندة الآخرين، ولكن المادة أقوى من ذلك، المادة هي التي تتحكم في الحياة وتسيِّرها، ويبلغ في ذلك دورنيمات قمة الذروة في تهكمه بالإنسانية وبالقيم الإنسانية حينما يقول على لسان كلارا: "الإنسانية يا سادتي خُلقت لخزائن أصحاب الملايين، إن من يملك إمكاناتي المالية يستطيع أن يضع للدنيا نظاماً خاصاً بها".
في النهاية يتم استفتاء بالإجماع على قتل الرجل "آل".
في هذه المسرحية، يقدم لنا دورنيمات ما يمكنني أن أسميها أيضاً بالكوميديا المعتمة التي خرجت من نطاق السخرية بأخلاق الناس إلى إبراز الشر بصورة هدامة، فالضحك فيها يسير جنباً إلى جنب مع عمليات هدم الحياة، كما برع دورنيمات في وصف النفاق الاجتماعي.
أخيراً أقول: مسرحيات دورنيمات تتسلل إلى قلب المرء بشكل لا يمكن وصفه، ويا حبذا يطَّلع أبناء الجيل الحالي من الفنانين والكتاب عليها كونها من الروائع والملاحم ومن نتاج الفكر العظيم.