العدد 4736
السبت 02 أكتوبر 2021
banner
وفاة عبدالناصر ونظرية المؤامرة
السبت 02 أكتوبر 2021

مؤخراً مرت الذكرى الحادية والخمسون لرحيل الزعيم العربي جمال عبدالناصر (28 سبتمبر 1970)، ومثلما تقام احتفالات سنوية بهذه المناسبة في مصر والعالم العربي، يجري بموازاتها سنوياً أيضاً تجديد حياكة الروايات بصيغ أو بأسانيد جديدة مختلقة بأن وفاته لم تكن طبيعية، بل جراء اغتياله بالسم وما شابه ذلك، في حين نادراً أن تجد روايات من هذا القبيل طوال العقد الأول من رحيله. ولأن عبدالناصر يتمتع بشعبية كاسحة فقد كان لوفاته المباغتة وصغر سنه (52 عاماً) تأثير في نسج تلك الأوهام.
وهكذا فبدءاً من الثمانينيات، ومع تزايد هزائم العرب وتفاقم إحباطاتهم أخذ الحنين الجارف يستبد بالمحبين للزعيم، فيستحضرون أمجاده متأسين على افتقادها، ولشدة تعلقهم به ووضعه - بوعي منهم أو بدون وعي - في مرتبة التقديس، ينساقون لا شعورياً إلى "نظرية المؤامرة" في وفاته، فتنسج مخيلتهم روايات شتى لا أساس لها من الصحة، وإلا فلماذا لم تتواتر هذه الادعاءات في السنوات العشر الأولى من وفاته، بل في العقود الأربعة الأخيرة؟ ولعل أشهر نسخة من روايات "نظرية المؤامرة" تلك التي أطلقها الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل في حديث تلفزيوني قبل عشر سنوات ونيف، وفحواها أن أنور السادات (نائب الرئيس عبدالناصر وقتها) قد دس سماً له في فنجان قهوة أثناء القمة العربية الطارئة التي عُقدت قبيل رحيله، لكنه سردها بطريقة مفتوحة، أي بدون موقف حازم يدحضها أو يؤكدها. أما آخر نسخة فقد وردت على لسان شاب ناصري ثلاثيني عشية الذكرى الأخيرة لوفاته، وذلك في قناة يوتيوب تحمل اسم "ناصر تي ڤي" وقد جهد نفسه في الاستدلال على اغتياله بكتب ووقائع حمّلها بإيحاءات وشكوك في أسباب وفاته بما لا تحتمل البتة.
ثمة تساؤلان يفرضان نفسهما هنا: ما هي إذا حقيقة الظروف والملابسات المتعلقة بوفاة الرئيس والزعيم العربي جمال عبدالناصر؟ ولماذا نزل خبر وفاته مباغتاً كالصاعقة على مصر والعالم العربي بل والعالم بأسره؟
في واقع الحال لم يكن معروفاً عن عبدالناصر أنه كان يعاني من مرض السكر إلا عائلته والخاصة المحدودة من المقربين منه في السلطة، وهذا المرض ظهرت أول أعراضه - حسب د. منصور فائز أحد أطبائه - في 1958، لكن مضاعفاتها تفاقمت بصورة خطيرة للغاية بعد 1967، جراء صدمة النكسة والجهد الخارق للعادة الذي كان يبذله في العمل اليومي لمدة لا تقل عن 18 ساعة متواصلة، وقد استمر في برنامج عمله الشاق حتى في ظل برنامج علاجه اليومي، رغم تكرر تحذير أطبائه المصريين وكبير أطباء قادة الكرملين السوفييتي يفجيني تشازوف، والذين قدم جميعهم أدلة قاطعة على طبيعة وفاته وحتميتها، خصوصا لما بلغته حالة مرضه من تدهور كان يكتمه طوال أيام مؤتمر القمة المذكور، حيث لم ينم في لياليها إطلاقاً، وقد وقّع الأطباء المصريون الأربعة الذين حاولوا إنقاذه في الساعات الثلاث الأخيرة من حياته على تقرير طبي مفصّل لتطور حالته الصحية الأخيرة التي أفضت إلى لفظ أنفاسه الأخيرة، وكانت أخطر أزمة قلبية مر بها في 1968، أما الأزمة الأخيرة فهي التي انتهت بوفاته 1970. وعُرف عن الرجل عشقه إلى درجة لامبالاته بنصائح أطبائه إطلاقا. ولتوضيح طبيعة حجم الأعمال التي يأخذها على عاتقه منذ توليه سدة الحكم، ومن ضمنها أعمال فائضة تفصيلية لا لزوم باضطلاعه بها كرئيس دولة، نذكر منها على سبيل المثال: قراءته يومياً مئات التقارير عن شؤون الدولة والمجتمع، وعلى رأسها تقارير أجهزة الاستخبارات المتعلقة بالجيش والأمن، اجتماعات مجلس الوزراء، لقاءاته الثنائية بالوزراء ومسؤولي الدولة، افتتاحه أو تفقده مشاريع تنموية وخدمية، استقباله أو اجتماعه بضيوف أجانب في مهمات رسمية، اطلاعه على الصحف اليومية قبل مثولها للطبع (حسب مذكرات صديقه أحد الضباط الأحرار خالد محي الدين)، اطلاعه على العديد من الأفلام المصرية المثيرة للجدل سياسياً للبت في عرضها أو حظرها إذا ما راودته شكوك بوجود أسباب مغرضة في توصية المسؤولين المعنيين بمنعها، وكذلك فضه منازعات عديدة بين كبار ومشاهير المطربين. 
صحيح أن عبدالناصر قد تخفف قليلاً من ركام هذه الأعمال الضخمة المتشعبة بعد حرب 1967، لكنه حمّل نفسه بما يفوق طاقة الإنسان العادي الموفور الصحة، فما بالك بالإنسان المريض مرضاً خطيراً، خصوصا خلال سنوات مرضه الأخيرة الثلاث حيث كرّس جل جهده في إعادة بناء القوات المسلحة. رحم الله الزعيم الوطني والقومي جمال عبدالناصر.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية