سلامًا على دمائك في المَحْبرة، وكلُ حرف بلا حبك نعشٌ ومقبرة. سلامًا عليك تعزف على الجرح (بيانو) الخلود ،وترسمُ بالقيثارة سمفونيةَ صبر الجدود، حدود حبك بأن ليس فيه حدود، مكابرًا تطحنُ بالسيوف خلاصَ الضمير وترهنُ للنهر بوح النَمير، وتطعمُ شفاه الوجود خيرَ الضحايا من بنيك طعم الهوى المشتهى والسمير، وتذكي بحوافر خيلك جذوة المنتهى. سلامًا يعانقُ سلمَ المجد بخطى الرجا والمرتجي، مرتلاً نشيد الخلود على مسامع الدهر قصةَ شِلوٍ يعانقُ سيفًا وكفُك بين احتراق الخيام ....كفوفٌ تصافح كفًّا. عذرًا أبا الطف، لعينٍ طحنوا حمائمها، واغتالوا نوارسها، واستلبوا الياقوت من عيونها، وصادروا البحر وأحرقوا الموانئ .... لطفلةٍ صغيرة تسمى كربلاء، لطفلة قد سرقوا الخاتم من إصبعها، ومزّقوا الورد الذي ينبت في وِشاحها، وصادروا الشمس التي تطلع من عيونها، وارتهنوا الثوب الذي يلون العرس مع الرياح ... ويرسم الصباح عذرًا لشلو يمزق، ودمٍ يوزع، وطفلةٍ تروع، ويتيمٍ يجوع، ووقف مقطع. سلامًا عليك أبا الطف، لخطيئة تستبيح وقفًا، وتخطف السنونو من أصابعهم خطفًا، تصادر الليمون من ملامح الأطفال، وتركل الزهر وتزرع السيفا. عذرًا أبا الطف، ليد تبعثر خيمك، وأخرى تسرق غيمك، لتذبح شمسك وتطفئ على المسلخ نجمك. بتولُك هي الأمُ لنا بتولُ وعليٌ أبونا المطرُ الهطول؛ ونحن نردد نشيد الجمال: نحبك عليا يظللنا في الشمس رمش البتول. تقول لنا: أحبوا الحسين وهل غير الحسين في الهوى نقول؟ سلامًا عليك، وعلى آل هاشمٍ، وزينبُ تطفئ بالدمع احتراقَ الخيام!! هو اليتمُ يسير بركب الوجود مذ أصبحت كربلاء مبرةَ يُتم وعينَ يتامى لا تنام: ((وحينما استقرَّتِ الرّماحُ في حشاشةِ الحسين
وازينّتِ بجسدِ الحسين
وداستِ الخيولُ كلَّ نقطةٍ في جسدِ الحسين
واستلبتْ وقسَّمتْ ملابسَ الحسين
رأيتُ كلَّ حجرٍ يحنو على الحسين
رأيتُ كلَّ زهرةٍ تنامُ عند كتفِ الحسين
رأيتُ كلَّ نهرٍ يسيرُ في جنازةِ الحسين)). ويمشي التاريخُ مبضّعًا يقص ليالي الوجود، وتبقى الجمالَ يغطي الجمالُ لونَ الضمير، وشعلةَ القلب النوار. من أنت؟ وكيف انبثقت؟ وكيف انبعثت؟ سنونو يقبّل شفاهَ الأفق البعيد، ونورسُ غربةٍ يلملم موانئ المغتربين الجياع. وحيدًا كما القمرُ البعيد، لكنه مضيء، وأجمل نجمٍ في سماء البتول لكنه كسير. وأحلى فؤاد يقطر عسلَ النقاء لكنه سكيب. وأغلى أنيس لعلي لكنه غريب. تدافع عن الكبرياء وشبلُك السجاد في خيمة العزِ مستلقيًا كنمرٍ مريض، يصافح بالعصا كفَ الخلودِ وبالأخرى يكفكفُ دمعَا سخينًا. سلام عليك شجرَ المجتنى توزع ثمرَ الإباء للخالدين. تسير بركبك بين الذئابِ بوجه لجين فصرت الخلود، وكنت الحسين. تلملم وجه كربلاء في سلال من نور، تقطف زهرًا، تنسج عمرًا، تورق صحرا، تشعل بستانًا في الليل ..ترمم حزن الليل تصلي فجرًا. وتستوقفك كربلاء ...أطفال يسار بهم نحو الركب، غبار يأكل لوحة دامية من صناعة الرب، خيام تشتعل تستجدي قلب الاحتراقَ حمامة رحمة، تفاوض النار الصمت والتوقف.. أجساد موزعة تحمل ابتسامة محمد وضوء علي ونور فاطمة. وعلى ملامح الأطفال شبه من محيا فاطمة.. شبه في العين، والأنف في إشراق الطلعة، وقسمات الوجع في الجبين، وخطوط ارشيف الزمن في كل منعطف من شمس الوجه وزمرد المحيا....تخال محيا علي موزعًا في سلةِ كل وجه ويد واصبع على الرمضاء.. يستوقفك أطفالٌ جوعى صغار تلمح في كل طفلة ملامح من فاطمة وفي كل يتيمة زهراء صغيرة .. وكأن التاريخ يضع يده على خده يسكب دمعه متسائلاً: أهؤلاء أبناء علي؟ وما بين خيام تشتعل، ونار تستعر، وضمير ينتحر، تتعثر زينب بين ركام الوجود تتوسل الشمس أن تتدثر في جوف الغياب، وتستعطف الليل البقاء، وأن يتوسد الموتُ القمرَ. هناك على جانب نهر الفرات كفان مبتورتان متعانقتان كصفصافتين كف العباس وكف الحسين ليعطيا للإنسانية حضارة احتضان قلب الأخ لأخ القلب. وبين بين، ترمق علي الاكبر مجدلا عينُ الحسين مرتلاً: (مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات..
ومقصوصة، كجناح أبيك، هي المفردات
وماذا سأكتب يا بني؟
وموتك ألغى جميع اللغات..
2
لأي سماء نمد يدينا؟
ولا أحدًا في شوارع لندن يبكي علينا..
يهاجمنا الموت من كل صوب..
ويقطعنا مثل صفصافتين
فأذكر، حين أراك، عليا
وتذكر حين تراني، الحسين
3
أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية .. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات..
ورسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدي
وكل الوجوه أمامي نحاس
وكل العيون أمامي حجر
فكيف أقاوم سيف الزمان؟
وسيفي انكسر). أطفال هامت على وجوهها جائعة تبحث عن وجبة رحمة، وسيوف تطحن تاريخ الحب، ويجيء علي يبكي وجعا منذ الكوفة الى هذا اليوم لم أهنأ نوما. قمر ذبيح على شفتي شط الفرات، ونجوم مبعثرة محشوة بالتراب، والألم أكاليل على خارطة وجع تاريخ طويل، ورياح تعلو للسماء على هيئة كف دعاء، ولبؤة تصرخ من الوجع مزامير حزن. يأتي علي وفاطمة يكفكفان دمع زينب، وفي عينيهما فاجعة السؤال: حبيبتنا زينب، أين هو الحسين؟ أجابته، وهي تقص له الرواية الحزينة، وهي تحتضن شمس دمعه: ((وحينما استقرَّتِ الرّماحُ في حشاشةِ الحسين
وازينّتِ بجسدِ الحسين
وداستِ الخيولُ كلَّ نقطةٍ في جسدِ الحسين
واستلبتْ وقسَّمتْ ملابسَ الحسين
رأيتُ كلَّ حجرٍ يحنو على الحسين
رأيتُ كلَّ زهرةٍ تنامُ عند كتفِ الحسين
رأيتُ كلَّ نهرٍ يسيرُ في جنازةِ الحسين)). وننشد الحب الذي رن كنغمتين: هذا هو الحسين، هذا هو الحسين... حضارة تشرق من حضارتين، وموطن وليس موطنيْن، ووحدة واحدة وليس وحدتين، وأمة وليس أمتيْن، وجعفر يرسم وجه خالدٍ
ٍ وخالد ينقش وجه جعفريْن. هذا هو الحسين ...لا سنة لا شيعة، بل وطن يكبر مرتين. شعب موالٍ واحدٌ ووجهُ شمسٍ ملكٍ تلك هي البحرين هذي هي البحرين .. سلامًا عليك أبا الطف، ونحن نرسم قيمك حضارةَ حرف وإصلاحَ وقف وعينَ عدالةٍ ترف برف نسير إلى شمسك بنغم العروج صفًّا بصف وكفًّا بكف فأنت أبونا وأمُنا الطف: من رآها بكى ومــــن لم يزرها *** حملَ الـريـحَ قلبُه تذكارًا.