العدد 3876
الأحد 26 مايو 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
فن إدارة الجرح (15)
الأحد 26 مايو 2019

ما كنت أريد من العالم كله إلا أنت واليوم أقول: (لك العالم كله إلا أنا) خذه شعارًا ترفعه في وجه من تاجروا بقلبك، وتوزعوا إرث ذكرياتك، يسهرون على الأطلال، وأنت غياب في الغياب. الأوجاع منثورة على كل الأرض، فكل له جرحه المسيّج كضريح يبكي عليه وينثر فوقه نذوراته. وتلك هي مفارقات الحياة في تناقضاتها ووجعها. فمن كان يصدق أن تكون نهاية الفيلسوف الإنجليزي، توماس مور المقصلة لأنه أبدى رأيًا في طلاق ملكي؟ كل منا يمتلك وجعه الخفي، وأكياس دموع، وبقدر عظم المجد يكون الجرح أكبر والصرخة أعلى، وإن غلف هذا الجرح بابتسامات ممكيجة، ولكن القوي هو من ينتزع الابتسامة من وجع الحياة. (ينقل لنا التاريخ أن آخر جوقة موسيقية ترأسها بيتهوفن هي الجوقة التي أنشدت السمفونية التاسعة (سمفونيته) وكانت استثنائية، فعندما انتهت ضجّ الجمهور بالتصفيق، ووقف الجميع تحية إجلال للموسيقار العظيم. ولكن بيتهوفين لم يسمع شيئًا بالطبع، ولم ير شيئًا لسبب بسيط: هو أن الجمهور كان خلفه، وهو يدير الجوقة. فجاءت إحدى الممثلات وأمسكت به من كتفيه، وأدارته باتجاه الجمهور لكي يرى على الأقل الأيدي التي تصفق. فانحنى وبكى وانسحب لآخر مرة من العالم...)) هي هذه الحياة مفارقات مؤلمة. يكثر الزمن على بيتهوفن سماع موسيقاه، بل وسماع تصفيق الجمهور له!!. الكاتب الألماني يوهان غوته أحب امرأة في حانه، فلما رفضت حبه أحرق الماضي، وراح يبحث عن حياة أخرى لذلك عاش سعيدًا بخلاف بيتهوفن، فالبرغم أنهما عاشا في فترة زمنية واحدة إلا أن بيتهوفن عاش تعيسًا يلعب به التاريخ والذكريات. يجب أن لا تستسلم للحزن، فرغم الحزن بقيت الكاتبة الشهيرة الزابيل الليندي المرشحة لجائزة نوبل تبحث عن الفرح بعد موت ابنتها، تحاول سرقته، واصطياد السعادة، فكانت الصدمة الأعظم في حياة الليندي وفاة ابنتها باولا في 1993 عن عمر ثمانية وعشرين عامًا بعد دخولها في غيبوبة تقول الليندي: أخذوا ابنتي شابة حية بحالة جيدة، وأعادوها جثة هامدة. نزفت الكاتبة إلى أنها سارت تقطف ثمار الحياة. أقول: صحيح أن الحب موجع لكن تجاوزه بات أمرًا ضروريًّا كما فعل البركامو وبيكاسو ونزار قباني، وهناك نساء بنين المجد لأحبتهن. فلا أحد يشك في دور زوجة وحبيبة الأديب الروسي العظيم دوستويفسكي الذي أخلص لحبيبته، وأخلصت له. يقول لزوجته قبل مماته ((أنا لم أخنك حتى في الذاكرة)) كذلك الموسيقار موزارت فقد وفق بحب امرأة مثالية ورائعة صفرت كل قروضه بسبب حكمتها، وكانت الشجرة التي يستند عليها عندما تهب الرياح وكانت ترمّم جراحه رغم فقدانه أربعة من أبنائه كانت تؤثث قلبه بالصبر. إن التعلق بالأشياء يقود إلى الضياع الأبدي. إذن نحن نحتاج إلى العلاقة المتوازنة لا المتطرفة مع الأشياء والبشر. فلابد من فك الارتباط الجنوني مع الأشياء كما يسمى في علم الطاقة. يقول نيتشه لطبيبه ((أنت تعاني من تعاسة عامة، وغارق في عالم اخترته بنفسك)) لكن توصيف نيتشه أصاب الحقيقة في تصوير تعلق هذا الطبيب بحبيبته عندما قال ((إنك مخلص لكنك تائه. تستحوذ عليك امرأة قد خلفتك ممزقًا بينما ما زلت وللأسف تلعق أنيابها المليئة بدمائك)). كثير من علاقاتنا الخاطئة نتناولها بسبب جوع عاطفي، فعندما تجوع عاطفيًّا قد تأكل كما الجائع حتى من الزبالة والأوساخ. بسبب جوعنا العاطفي ما زلنا نأكل من الزبالة، ونحاول أن نقنع أنفسنا بأنها طبق مهرب من الجنة. ولهذا كان الفيلسوف باسكال متشائمًا من الجنس البشري كما هو نيتشه. نعم كما يقول ابن عربي (الحب موت صغير) هذا إذا استسلمنا له، فأنا أرى حتى الحب له تاريخ صلاحية، وينتهي ولو تم الرهان على بيعه في السوق السوداء للعاشقين للذين احترفوا الغباء بشراء بودرة مخدراته على أنها حليب مجفف يغني بكالسيوم عظامه. لا شيء يستحق الحزن، والصراع على الحياة حبًّا أو مالاً أو منصبًا أو جاهًا أو شهرة ضرب من الجنون. عش مع السعداء، واستقبل من يستحقون الحب. يقول نزار قباني (قبل النوم البس أجمل ما عندك، تعطر ورتب غرفتك، فبعض الذين يأتون في الحلم يستحقون حفاوة أكثر من الذين يأتون في الواقع ). إنه فن إدارة الجرح.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية