العدد 3863
الإثنين 13 مايو 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
عظماء المجد... الحب والسكين (12)
الإثنين 13 مايو 2019

يقول دوستوفيسكي “أبشع العلاقات تلك التي تدخل فيها بكامل قوتك، وتخرج منها منهكًا، مرهقًا، قلقًا من كل شيء، خاسرًا جزءًا من نفسك، محمّلًا بثقلٍ لا يوصف، ضائعًا لا تعرف أين تذهب، خائفًا من الجميع! الطيبون لا يؤذون أحدًا، لكنهم يؤذون أنفسهم كثيرًا وهم لا يشعرون”.
كثير من عظماء المجد تعقدوا من الحب؛ لأنهم اختصروا أنفسهم فيه.. لا أحد في الوجود يستحق أن تجعل منه تمثالًا تلمعه كل يوم بقلبك، وتغسله بدموعك! يقول الإمام علي (ع) وهو يزور مقبرة شارحًا مصير تعلقات الإنسان بعد موته “أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ”. هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟ ثم التفت إِلى أَصحابه فقال: أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ (الموتى) فِي الْكَلاَمِ لأخْبَرُوكُمْ أَنَّ ﴿خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾“.
لماذا تعشق امرأة قد تتركك بأي لحظة بزواج أو خيانة أو موت؟ لماذا تهوس بمنصب غدًا ينتقل لغيرك أو مال غدًا سيرثه غيرك؟ لست أفلاطونيًّا، ولا من دعاة زهد الحلاج أو عرفان ابن عربي، ولا متشائم كأبي العلاء المعري أو شوبنهاور، ولكن أنا أؤمن بنظرية عدم الهوس بالأشياء والانفتاح على كوكتيل الحياة.
عش الحياة طولًا بعرض، لكن لا تكن مجنونًا أو أسيرًا بشيء وإلا قتلك. نيتشه يعتبر المرأة مصيدة الطبيعة، وبسبب تعلقه المَرَضِي بحبيبته عاش مجنونًا. انحنى على قدمي حبيبته يقبلها كي لا تهجره باكيًا ولكنها تركته، وقادته إلى شبه الجنون، بل جنّ آخر 11 عامًا من حياته رسميًّا، وراح يركض في الطرقات إلى درجة هاجم حصانًا بشكل هيستيري دون سبب واعتزل التدريس، والناس، وظل يتسلق الجبال وحيدًا.
ليس الحب ولا الزواج ولا الشهرة هي المهم، المهم أين تجد سعادتك؟ رؤيتي للزواج واضحة. ليس مهمًّا أن يتزوّج المرء، المهم أن يكون سعيدًا دون أقنعة، ولو من دون امرأة، فإن كانت العلاقة ستسعده فمرحبًا بها، وإلا فالعيش وحيدًا مع إتقان فن إدارة الوحدة أفضل ألف مرة من زواج ديكوري. أنا مع الزواج المتوازن وضد الزواج التجاري على طريقة زواج بنت البابا أيام السلطة الرومانية أو زواج الشو أو زواج الفاشينيستا لالتقاط الصور الفوتغرافية. وكم أستسخف القوم الذين يرهقون كل من يرونه بالأسئلة الخائبة، امرأة أو رجلًا، إذا كبر سنه بلا زواج يصدعون رأسه: لماذا لا تتزوج؟
أقول: من منا لم يطعن بسبب غدر خناجر العشق؟ فلا انتصارات نابليون، ولا موسيقى بيتهوفن، ولا لوحات فان جوخ، ولا فلسفة البيركامو استطاعوا أن يسلموا من غدر الزمان أو خنجر المرأة. وكم امرأة قتلها غدر الرجل! أقول لعظيم المجد، لا العشق ولا العبقرية ولا عقدة الطفولة قادرون على تدميرك إذا اكتشفت الخلطة السحرية في الحياة، وتوازنت، وانتبهت للوحوش التي تأكل سعادتك.
بيتهوفن سمح لـ 3 وحوش تقوده للموت: ملاحقة الماضي للأب المتوحش، الحب القاتل، الخمرة والمهدئات. كلها لعبت بحياته، فأصبح يعيش في بيت مهمل مليء بالقمامة والحشرات. إذا تركت الحب يبتلع داخلك سيعفن قلبك ونفسيتك إلى أن تتحول إلى صورة مومياء ذي ابتسامة اجتماعية خارجية، وفي الداخل تعاني من غرغرينة قلبية متعفنة.
إذا سمحت للمال بأن ينهش عقلك وحواسك ستهوس به حتى ينهش كل شيء بداخلك، فتتحوّل إلى وحش مال والضريبة نسيان جماليات الحياة. ماركس كان مدمن تدخين فلعبت السيجارة بصحته، وفقره لاحقه وهو في باريس ونكّد الحياة ظل يلاحقه. الشاعر هولدرلين من أشهر الشعراء في الأدب الألماني بسبب موت حبيبته فقد عقله فمات. إنه التعلق المَرَضِي. اختصر حياته في حبيبته فمات بعدها.
تولستوي فشل في الحب والزواج فهرب من المنزل. فان جوخ ظل يبتلع أجزاءً من لوحاته. أقول: اخرجوا من الغرفة المغلقة، وامسكوا بجناح أول نورس طائر نحو سماء الحرية والانعتاق من عبودية الأشياء. فالحياة قصيرة، ولن نعيشها مرتين، فإن الله خلق ثمانية مليار إنسان لتتخيروا. ابصقوا على وجه عشق الأشياء، وعيشوا بسلام.
قالت مستغانمي متسائلة حين كتبت “إن لحظة حب تبرّرُ عمرًا كاملًا من الانتظار” ما كنت قد قرأت بأن ميخائيل نعيمه أحب أثناء دراسته فتاة روسية ولم يتزوجا.
‏بعد 80 عامًا كتب في وصيته “اتركوا باب الضريح مفتوحًا.. لعلها تأتي!”،
‏فهل حقًّا يستحق من أحببناهم ولم يأتوا، أن ننتظرهم إلى ما بعد الحياة؟”، أقول: من أحببناهم نعم ولكن من عشقناهم لا. فلا أحد ولا شيء في الوجود يستحق العشق إلا الله لأن المعشوق جلاد تحت التدريب. أنا مع الحب وضد العشق.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .