العدد 3180
الخميس 29 يونيو 2017
banner
لنفهم السياسة كما هي
الخميس 29 يونيو 2017

تشير كل المواقع الراصدة للإعلام الاجتماعي إلى ما يشبه الانفجار في ارتفاع أعداد المستخدمين لها إبّان العام 2011، حينما سرى ما أسمي بـ “الربيع العربي” في أوصال هذا الوطن العربي الكبير، حيث اعتبر في البداية ما حدث في تونس أمرا فرديا، فامتدّ إلى مصر، ومنها إلى الكثير من الدول العربية، مع اختلاف الشعارات التي رفعت هنا وهناك، ولكن الثابت أن حجم الاستخدام العربي للإعلام الاجتماعي كان ضخماً جداً، ومكتسحاً لجميع أشكال الإعلام الجماهيرية التقليدية المعروفة، حتى قيل حينها “ثلاثٌ تخشاها الأنظمة العربية: خطبة الجمعة، والميادين العامة، والفيسبوك” الذي كان أكثر وسائل التواصل الاجتماعي شهرة، في الوقت الذي كان فيه تويتر يشق طريقه هو الآخر بقوة في تبادل الأخبار السريعة، وراجمات الصواريخ الكلامية، والعنف اللفظي، وكل وسائل الرد والردع المتاحة، ولا استراحات في المعركة، ولا حدود لها، وليس لها أول من آخر، فكل ما تصل إليه أفكار المتحمّسين عبارة عن أسلحة وراجمات لـ “الأعداء”.

المدى المتوسط من السنين الذي يفصلنا عن أعوام الفورة في الإعلام الاجتماعي، لا يزال في مرحلة المخاض في كيفية تعاطينا معه. نكتشف أنه لا يمكن لأحد إقناع المخالفين له، ولكن جلّ ما يحصل عليه المنتمون، هو التأييد من المؤيدين، والرفض من الرافضين، وبالتالي لا أحد يزيد في أيّ من المعسكرين، وما يحصل هو العكس، إذ يبحث المنتمون هنا وهناك على ما يؤكد وجهات نظرهم، ويشيحون عن وجهات النظر المخالفة، وإن كانت تملك من الوجاهة ما تملك.

وكنا سنرضى بهذه النتائج على اعتبار الوصول إلى ما اصطلح الساسة اللبنانيون على تسميته “لا غالب ولا ومغلوب”، وكلٌّ بما لديهم من الأفكار والأتباع فرحون. وعلى الرغم من التراجع الكبير في المواقف بعد أن هدأ غبار المعارك في الكثير من الجبهات “السوشلية”، إلا أن المغرّدين/الناعقين يبقون كجنود الاحتياط الذين متى ما أطلق “الأرباب” (على اختلاف مواقعهم وأشكالهم) نفير الحرب، حتى أخذ كلٌّ موقعه، وعاد سريعاً إلى قاموس السباب والشتائم الأٌقذع، ويراجع كلٌّ منهم خططه التي نجحت، ويرفع عينيه إلى السقف وهو يتمتم في استعادة تفاصيل الهجوم الكاسح الناجح الذي شنّه ذات غارة تكنولوجية، فأيّم نسواناً، وأيتم إلدة، وعاد كما بدأ، والليل أليلُ.

حالة التوتر هذه التي تصاحب النقاشات ما عادت مقبولة البتّة، لأنها صارت تفسد جميع العلاقات الاجتماعية، بينما الشأن سياسي بحت، والسياسة لا ثابت ولا ثبات فيها، ولا يمكن التعويل على المواقف التي تتراوح فيها، ولا يمكن اتخاذها ديناً يُنتفض لأجله، إنما هي عَرَضٌ من أعراض الحياة الحديثة، فلا يمكن أن تتسمم العلاقات الاجتماعية، ويقاطع الناس بعضهم، ويتخذون منهم مواقف، وتثقل الأجواء فيما بينهم بسبب خيار سياسي ليس إلا.

هذه واحدة من مشاكلنا، بل من أكبر مشاكلنا وأكثرها تعقيداً، وربما هو دور مناط في الأساس بدروس المواطنة التي عليها أن تكون أكثر قدرة على التعددية والتنوع في الطرح، وجعل الاختلاف السياسي أصلا من أصول المجتمعات الحديثة، وليست كالسرطان الذي نخشى التصريح به، ونسمّيه بغير اسمه خشية استدعائه لو صرّحنا به. إنه واجب ملحٌّ على معهد التنمية السياسية ليشغِّل آلياته بما يتجاوز إمكانياته ليبثّ في المجتمع، صغاراً وكباراً، أن الاختلاف السياسي ليس عداوة، ولا تنافراً ولا تدابراً، فإذا فهمه أبناء مجتمعنا على هذا النحو فوا أسفاه على ما ندّعيه من وعي سياسي مبكر يمتد إلى قرن من الزمان.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية