العدد 2862
الإثنين 15 أغسطس 2016
banner
الدبلوماسية الرياضية
الإثنين 15 أغسطس 2016

من العام 2000، عندما كانت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية قد عقدت في سيدني (أستراليا)، وإلى يومنا هذا، كنوع من الاختبار الذي أجريته، وجدت النتيجة نفسها تتكرر، بما يعني أن الأمر ليس صدفة ولا حظا، وإنما هو علوم وبرامج واستراتيجيات وخطط وصبر وإنفاق في الأماكن الصحيحة والحصول على النتائج المتراكمة لا الفلتات.
الأمر يمتد إلى ما قبل هذا بحسب الذاكرة، عندما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يخوضان حرباً ضروساً طاحنة، فهما البارزان والطاغيان على الألعاب. هناك دافع أن يكون التفوق في كل منهما شاملاً كاملاً، ليس في السلاح، بل في الميادين الرياضية أيضاً، وربما الميادين الرياضية أولاً. فالرياضة تكسب القلوب، وتبيّن قوة البلد، وقدرات أبنائه، ومدى إخلاصهم للعلم، وعمق انتمائهم بحيث لا يقبلون الهزيمة، وتلين المواقف بسبب الأداء المذهل للاعبين، تدخل الرياضة إلى حيث تعجز السياسة والاقتصاد، مثلها مثل الفن، حيث لا يمكن لأي سياسي وإن بدا متشدداً في شأن بلد ما أن يمنع أهل بلده من التعاطي مع فنون تلك الدولة، خصوصاً إن كان الشعب خليطاً ثقافياً ليست فيه غلبة عرق أو عنصر بشكل واضح على المكونات الأخرى من المجتمع.
منذ منتصف السبعينات (بحسب تقديري الخاص) أدركت الولايات المتحدة هذا التحدي وهي في أوج صراع التقدم مع الاتحاد السوفيتي في حصد الميداليات، سواء الذهبية منها أو في المجموع العام. منذ دورة مونتريال (كندا) في 1976، إذ حلت في المرتبة الثالثة بعد الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية، وهما دولتان كانتا تتفوقان في ألعاب الجمباز والسباحة وألعاب القوى المعتمدة على القوة البدنية والرشاقة. ومنذ ذلك الحين بدأت الولايات المتحدة تبني استراتيجية جديدة في الألعاب المتأخرة فيها، وبدأت تتقدم أكثر، وصارت لها الغلبة منذ أن انهار الاتحاد السوفيتي الذي لعب البقية من لاعبيه المتناثرين تحت العلم الأولمبي في برشلونة (1992) واستحوذوا على المركز الأول لآخر مرة في تاريخهم حتى الآن، قبل أن يستلموا المراكز التالية، وتربعت الولايات المتحدة على العرش وحدها، ما عدا دورة بكين 2008 التي فازت الصين بأكبر عدد ميداليات، وليست العبرة بالمركز الأول والثاني في الرياضة، بل العبرة في الفارق بين المراكز، فكل ميدالية تصنع مسافة بين الدولة ومنافسيها، كما هو الحال في القوة والاقتصاد وغيره.
وكما هي القوة في الموازين العسكرية والاقتصادية، فإنها تنعكس أيضاً على الرياضة، إذ ليست صدفة أن تكون الدول الثماني، والدول العشر، والدول العشرين، تقريباً هي نفسها على ترتيب الدول المستحوذة أكثر ما يكون على الميداليات بألوانها المختلفة، وليست صدفة أن تأتي الولايات المتحدة أولاً ومن بعدها تأتي جمهورية الصين الشعبية، فروسيا وألمانيا، وهكذا بحسب موازين القوى تأتي موازين الرياضة. نعم هناك ميداليات تحرزها دول فقيرة اقتصاديا، وبالتالي ضعيفة عسكريا، ولكنها من قبيل المتفرقات الآتية من طفرات لدى لاعبين، ومهارات لدى رياضيين، مع شيء ليس قليلا من الحظ أحياناً، ولكن الأمر لا يرقى أن تتبوأ هذه الدول المراتب المتقدمة رياضياً في ترتيب الميداليات، لماذا؟
الدول المعتمدة على تسيير أمورها يوماً بيوم، الدول التي لا استراتيجيات لديها، ولا خطط مرحلية توصلها إلى رؤية في شتى المجالات، لا يمكنها أن تخطط لأي شيء، ومنها الرياضة. لا يمكنها أن تصنع أجيالاً تأتي من الصفوف الأولى في المدارس، ولا يمكنها أيضاً الاهتمام بهم على مدى سنوات، ولا يمكنها أن ترسم لهم حلماً تزرعه في كيانهم ووجدانهم، ولا يمكنها أن تطوّر أنظمة التدريب والتغذية لأن هناك أسرارا لا يفك طلاسمها إلا من يملك العلم في هذه الجوانب، وليس من يتلقى ما يفيض منه، وما يستغني عنه الآخرون لقدمه وعدم صلاحيته.
التدريب الرياضي اليوم ليس إجهاداً بدنياً وحسب، بل هو علم تتدخل فيه جملة من العلوم مثل التشريح والتغذية وعلم النفس والتاريخ والحركة، وهي علوم تجتمع كلها في تكوين الرياضي لكي يكون منافساً على أعلى المستويات العالمية، ويتقبل الضغوطات باحترافية، ويطوّر تحدّيه ويرفعه لأنه عاكف على هذا العمل، لا شاغل له سواه، يركز عليه لسنوات، وحوله جملة من المدربين الصارمين، ووراءهم فرق بحثية في العلوم المتعلقة بكل ما يصنع الرياضي، وإذا آمنّا بأنها صناعة حقيقية، عرفنا لماذا نحن العرب على مسافة كبيرة بيننا وبين الفوز، وبين ارتقاء منصات التتويج، وبيننا وبين التقدم على السلم العالمي، فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً تبدلت الألعاب الأولمبية إلى الأبد، ولم تعد ساحة للهواة، بل أتيحت الفرصة للمحترفين لتقل حظوظ من يعتمدون على حماسهم ومواهبهم، ويحل محلها الاحتراف والعلم والنفقات العالية جداً.
إذا افتقدنا حصص الرياضة الحقيقية وتحولت إلى حصص الهزيلة والهزلية في المدارس، وإذا افتقدنا وجود مدارس خاصة بالرياضة تعنى بالأطفال الرياضيين، والمهن الأخرى المساندة، وما أكثرها، وإذا كان الافتقاد إلى المنشآت الرياضية المتكاملة للرياضات المختلفة، وهي كثيرة، سببا لأن لا يأتي منها لاعبون في الألعاب الفردية والجماعية ولكن لا ساحات لهم، وإذا افتقدت الرياضات أطقم المدربين المتنافسين على الدفع بأفضل العناصر إلى المنافسات، وإذا اعتاد اللاعبون الافتقار إلى المنافسات المحلية بشكل متواصل بما يثري مشاركات اللاعبين، وإذا بقيت الإشاحة والاحتقار للألعاب غير المشهورة بما يجعل من يلعبها أضحوكة ربما إلى أن يثبت العكس ويفوز ببعض الألقاب، وإذا جرى ويجري طيّ الكتب والأبحاث العلمية، وافتقاد المحليّ منها بما ينصب على التكوين المتكامل للاعب الرياضي في بيئتنا، وإذا تم اختصار البناء بالشراء، فبدلاً من صناعة النجوم، نؤجر نجوماً أو أنصاف نجوم يمثلوننا في المحافل، فهم أيضاً – في تقديري – ليست لهم علاقة بالفوز.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية