وانتصرت بالصبر...
أم علي رافقت ابنها مريض السرطان بالأمل والتفاؤل في رحلة العلاج
إعداد: حسن فضل
«صحتنا» اهتمت بتوثيق ونقل تجارب المتعافين من مرض السرطان لتكون ملهمة للآخرين وتكون محطة يستلهم منها مرضى السرطان خلاصة تجارب الآخرين وكيف يواجهون وحشيته. قصص في جعبتها الكثير من الألم، ولكن الأمل كان حاضرا فيها بقوة. أمل ينسف كل شعور يأس وإحباط وخوف وقلق. قصص تثبت أن مرض السرطان يمكن هزيمته.
قصتنا اليوم مختلفة، فبطلتها والدة طفل متعاف من السرطان. قصة والدة الطفل علي فردان المصاب باللوكيميا تستحضر كل مشاعر الأمومة في مواجهة هاجس الفقد من مرض لا يعرف الرحمة. وتقرأ فيها شعور كل أم أصيب ابنها بهذا المرض. والدة المريض علي التي انهارت حين وصلها نبأ إصابة ابنها ثم أصبحت ملهمة لكل أم طفل سرطان.
كيف كانت حياة علي قبل الإصابة؟
كانت حياته مستقرة قبل المرض، فلم يكن يعاني من مشكلة، فقط كان يعاني من ثلاسيميا ونقص خميرة، لكن حياته كانت طبيعية جدًا، من دون أي مشكلات، حياة تضج ببراءة الطفولة وهدوئها وجمالها. التحق علي في عمر السنتين بالروضة لتعلم اللغة الإنجليزية عن طريق الألعاب؛ حرصًا من العائلة على أن يكتسب كل المهارات ومن ضمنها اللغة الإنجليزية، كان طفلا طبيعيا، ويعيش طفولته كباقي الأطفال بهدوء وأمان وطمأنينة.
متى أصيب بالمرض وكيف تلقيتم الخبر؟
كنت ألاحظ وجود كدمات على أرجله، كدمات زرقاء وبنفسجية وخضراء. وكان الجميع يسألني عنها وعن سببها، كنت معهم في حالة استغراب، ولكنني كنت أرجح السبب لكثرة حركة علي، فكنت أتوقع أنه سقط والكدمات من آثار السقوط، لذلك أقنعت نفسي بأنه سقط بعد اللعب لكثرة حركته. في يوم من الأيام كنت أوقظه للذهاب إلى الروضة، يوم كسائر الأيام، ولكن هذه المرة لم يستجيب ورفض النهوض، وعندما استيقظ كان أمرًا مريبا يحدث، فقد كان يمشي ويسقط مثل طفل في بداية تعلمه المشي.
ذهبت به إلى إحدى العيادات الخاصة، وأخبرت الطبيبة بالتفاصيل، فأجرت فحوصات أولية من قياس درجة الحرارة والكشف على البلعوم والأذن وكل الأمور كانت سليمة، عندها طلبت الطبيبة من علي الحضور لها، استجاب علي ومشى قليلًا وسقط وحاول مرة أخرى وسقط، ويبدوا أن الطبيبة شخصت المرض من تلك اللحظة، ولكن لم تخبرنا، ولكنها نصحتني بالذهاب مباشرة إلى مستشفى السلمانية؛ لأنه قد يعاني من هبوط في الدم وسيحتاج لدم وهو باهض الثمن في العيادات الخاصة. وما زاد قلقي هو أنها أعطتني رقم هاتفها الخاص للتواصل لأطمئنها عليه، فسألتها: «هل بعلي مكروه؟»، فأجابت بصوت خافت: «لا.. فقط للاطمئنان عليه».
ذهبت للمستشفى مصطحبة معي قلقي وخوفي على ابني الوحيد، وتم إدخاله مباشرة لغرفة الأطفال، وبعد التحاليل، أخبروني أنه يعاني من انخفاض في نسبة الدم إذ بلغت نسبته 6 وعليه فإنه يحتاج لنقل دم، وتم هذا ولكن سرعان ما هبط حتى تم تزويده بالدم مرة أخرى والنتيجة كما هو متدني المستوى، وتكرر هذا الموضوع. كنت في حيرة من أمري عن سبب هذا النزول المتكرر لمستوى الدم ولكن لم أجد جوابا. مكثت معه لمدة أسبوع كامل، وكل طبيب يأتي للفحص ولكن دون إخباري بأي تفاصيل. زارتنا الطبيبة خلود وذكرت احتمالات عدة ومنها السرطان واللوكيميا ولكن لم أنتبه لكلامها، فقد كانت تمهد وتعطينا الاحتمالات، فكنت أستمع للاحتمالات ومر اسم السرطان مرورا عابرا دون اهتمام مني.
بعد إخراجه من المستشفى تم أخذ خزعة من الظهر بعد تخديره، وخرجنا من دون تفاصيل عن الحالة، ولكن طلبوا منا انتظار اتصال منهم. لم يتأخروا كثيرًا حتى وردنا اتصال من المستشفى يطلب حضورنا لجناح 202. كنت أعرف أن هذا جناح خاص بمرضى السرطان ولكن حينها لم أفكر في هذا ونسيت أو تناسيت، فلم يكن احتمال السرطان واردا عندي، وهو مستبعد، أو ربما لم أكن أريد أن يكون من ضمن قائمة الاحتمالات. فجناح 202 أتذكره جيدًا، فكنت كثيرًا ما أمر بجانبه كون الوالد دائمًا ما يتم إدخاله إلى المستشفى وكنت أعرف أنه لمرضى السرطان فأدعوا لهم في نفسي بالشفاء، ولكن حين دخلت هذه المرة لم أكن أعلم أنني في جناح مرضى السرطان. دخلت على د. خلود وكان من دواعي أسفي أنهم لم يخبروني بعدم اصطحاب ابني، فبدأت الطبيبة تتحدث وتتحدث وتسترسل بالحديث والمقدمات لمدة طويلة...
سألتها: “هل تريدين أن تخبريني أن ولدي علي مصاب بالسرطان؟”، فكان ردها العاصف وقالت بصوت منخفض ومبحوح: “نعم”. وقعت هذه الكلمات عليّ كالصاعقة ولم أستطع التحمل ودخلت في نوبة بكاء هستيرية أمام علي.. كنت أظن أن هذا المرض سيخطف مني ابني الوحيد، كنت أظن أن هذا المرض يخطف الأطفال، لم أكن أعلم أن هناك أملا في الحياة. فقد اعتدنا أن السرطان هو مرادف للموت لدرجة أننا لا ننطق حروف اسمه.
استمرت نوبة البكاء، وكان علي في حالة استغراب ودهشة من سبب بكائي. أخرجوني الممرضات لكي أعاين المرضى وأهاليهم، فربما يخفف هذا من وطأة الأمر حتى أنهم ذهبوا بي لغرفة الألعاب وظنوا أن هذا سيخفف عليّ هول الصدمة، ولكن ما شاهدته كان صدمة لي، أطفال بلا شعر وبكمامات والأجهزة الوريدية تطوق جسمهم. مشهد يدمي القلب لطفولتهم المسروقة وهذا ما جعلني أنهار أكثر وطلبوا مني التحدث معهم؛ لأنه سيخفف علي، وكنت في وضع لا أحسد عليه.. كنت في حالة صدمة وانهيار ولم أتحدث.. كنت أعيش صدمة الخبر والخوف على ولدي ورفضت الحديث مع أحد. خرجت من الجناح في حال لا يعلمه إلا الله، فمنظر الأطفال على الأجهزة ومن دون شعر أتعب نفسيتي كثيرًا. عدت إلى المنزل وأخبرت الأهل وكان الخبر صادما لهم، فبعضهم انهار وحياتنا انقلبت من الهدوء إلى البكاء والخوف.
ما خيارات العلاج التي كانت مطروحة وكم نسبة الشفاء؟
كانت د. خلود تنتظر مني التوقيع لإدخال علي إلى المستشفى لأخد أول جرعة كيماوي بتركيب الجهاز، سلمت أمري لله ووافقت على العلاج وكانت نسبة الشفاء عالية (80 %)، وأخبروني أن العلاج متوافر في البحرين وسيكون العلاج تحت إشراف الطبيبة خلود مباشرة.
كيف كانت ظروف العلاج؟
بدأنا العلاج في مستشفى السلمانية وحدة 202 مع كل الشكر والتقدير للدكتورة خلود. كانت فترة العلاج طويلة وفيها مشقة ومتاعب وخوف وقلق وسهر وكان هاجس أن الموت سيخطف ولدي في أي لحظة يلاحقني ولا يبارحني. وعندما يكون علي في وضع صحي مستقر أحمد الله وأشكره وحين يستاء وضعه ويشعر بالألم ويكون في حالة تعب أتجه لله بالدعاء وأقرأ القرآن بخشوع. كانت فترة صعبة وطويلة ومؤلمة ولكن الحمد لله تخطيناها وأصبحنا أكثر قوة وصلابة في مواجهة التحديات.
ما الصعوبات التي واجهتك في العلاج؟
أسئلة علي كانت تؤثر في نفسي كثيرًا، وكنت مضطرة أن أجيب لأعطيه أملا، كنت سندًا إليه في تعبه وألمه حتى يقوى ويتغلب على المرض، فدائمًا تتكرر أسئلته: لماذا لا أستطيع اللعب مع الأطفال في الشارع؟ لماذا لا أستطيع الذهاب إلى الحدائق؟ لماذا لا أستطيع اللعب مع الأهل؟ لماذا لا يوجد لدي شعر؟ لماذا أنا دائمًا في المستشفى؟ أنا تعبت من الأدوية، تعبت من الإبر. كانت أسئلة مؤلمة جدًا ولكن كنت دائمًا أجيب عليه وأعطيه أملا ولا أتركه دون جواب. قد لا تكون إجاباتي مقنعة ولكن تهون عليه وتؤنسه.
كنت أصنع إليه وجبة مشابهة للوجبات السريعة في المنزل وأتفق مع موظف المطعم أن يغلفها مع لعبة لتبدوا مثل الوجبات حتى لا يشعر علي. كنت أختار يوما يكون فيه العدد قليلا في المجمعات وأذهب معه مع ارتدائه الكمام والتعقيم لكي أبعد عنه كآبة المستشفى كونه هناك مدة طويلة.
نظرات الشفقة على ابني عند رؤيته كانت مؤلمة وكنت أشاركه لبس الكمام حتى لا يشعر بالفرق. والأشد إيلامًا أن بعض الأمهات يبعدون أطفالهم عن علي خوفًا من انتقال العدوى رغم أن المرض غير معد ويرفضون مشاركته اللعب مع أطفالهم ما يؤثر فينا لحد البكاء رغم أن أولادنا هم من يتضررون لقلة مناعتهم، وهذه مشكلة مشتركة عند أمهات أطفال السرطان. نظرات الشفقة كانت قاتلة. كنا نبكي لوحدنا ولكن كوني أمًا يجب أن أتحمل مواجهات الناس مع المرض. فهناك أيام نستقبل تباشير من الطبيبة وتكون مفرحة بشأن النتائج وأيام تكون سيئة مع أخبار سلبية عن النتائج.
ماذا أضافت إليك مواجهة مرض السرطان؟
مرض علي أعطاني القوة وأعطاني الصبر وأيقنت يقينا أن الله تعالى لا يبتلي عباده إلا لصلاح. الله ابتلى عليًا بهذا المرض وابتلاني بالمشقة لأن فيه صلاح إلينا. استفدت أنا وعلي. فمهما نتضرر ومهما نتعذب فهو صلاح للعبد. تجربتي مع علي عرفتني على الكثير من الناس والجمعيات والآن أنا أبث الأمل عندما أسمع عن إصابة أحد بالمرض. كنت سندا لعلي وواجهت كل الصعوبات حتى انتهى علي من العلاج وأصبح من الناجين. أنا اليوم أفتخر بنفسي بأنني أم لمحارب السرطان علي، فقد استطعنا بتماسكنا تخطي الآلام وكل المشكلات.
ما رسالتك لأمهات مرضى السرطان؟
أقول رسالتي إلى أمهات أبطال السرطان: كوني قوية، وليكن عندك أمل، فالأمل والابتسامة والتفاؤل أكثر من نصف العلاج. كوني مرافقة لابنك بأمل وتفاؤل وابتسامة وصبر وكأنك تصعدين درجا كبيرا وستصلين بإذن الله إلى القمة، وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فالحالة تنتكس في اليأس والتشاؤم.
كلمة شكر توجهينها؟
كل الشكر إلى لله سبحانه وتعالى أولًا، ثم لمن ساندني ودعا إلى ولدي وتواصل معي ووقف معي سواء بالحضور أو الاتصال من أهلي وأقاربي وأصدقائي. وشكر خاص إلى الممرضات في الجناح ونحن نسميهم ملائكة الرحمة، فتعاونهن معنا كان راقيًا جدًا، فكنا نشعر بأننا في المنزل وليس المستشفى، فتعاملهم مع الأطفال كان لطيفًا، فكن ممرضات صابرات يحاولن رسم الابتسامة على الوجوه المتعبة، ويتفهمن صراخ وشقاوة الأطفال بكل رحابة صدر. فعلًا إنهن ملائكة الرحمة. وأشكر جمعيات رعاية مرضى السرطان التي كان تزور الجناح وتدخل السرور على الأطفال بالهدايا. يعجز اللسان عن الشكر لمن ساند أطفالنا. بفضل الله ودعمهم وبفضل الله أولا وأخيرًا ينعم ولدي علي بالصحة الآن.