+A
A-

أزمة النظام الرأسمالي العالمي

أثار الأستاذ عبدالنبي الشعلة في صحيفة “البلاد” بتاريخ 19 أبريل 2020 مسألة الأزمة التي يمر بها النظام الرأسمالي وسياسة العولمة في ضوء فضيحة ذلك النظام تجاه معالجة وباء جائحة “كورونا”، التي أظهرت عجز تلك الأنظمة تجاه حماية الأفراد والمجتمعات والنظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإنسانية عموما.

وقد تعالت الأصوات المنذرة من قبل العلماء والدارسين والمختصين والمستشارين، داعية إلى ضرورة تعديل مسار الأنظمة الرأسمالية للاهتمام بالإنسان قبل الآلة، وبرخاء المجتمع في مقابل تكديس الأرباح وبمشروعات التنمية في مقابل إنتاج وتطوير السلاح بأشكاله التقليدية والبيولوجية والذرية، وبضرورة توفير موازنات مالية للدواء والعلاج تحسبا للأزمات.. وبالسلام العالمي في مقابل الغزو وتغذية الحروب القطرية وإشاعة الرعب والخوف بين الشعوب المغلوبة على أمرها.

ويبدو لي أن دول العالم، خصوصا منها أميركا والدول المتقدمة، ما تزال منشغلة بالقضاء أو الحد من جائحة كورونا وآثارها المدمرة على الإنسان والدمار الاقتصادي والحضاري عموما، دون التفكير في نظام عالمي جديد، ربما لا يسير في نطاق مصالحها الأنانية.

من المعروف تاريخيا أن دول الغرب المتقدمة بنت اقتصادها منذ عهد آدم سميث، وكتابه المشهور (ثروة الأمم) على أساس حرية السوق وحرية المنافسة وحرية العرض والطلب

وأفضلية رأس المال في تحقيق الربح من وسائل الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي بعيدا عن تدخل الدولة.

وقد تجاهلت الثورة الصناعية في تلك الدول قيمة العمل في الإنتاج وبخست حقوق العمال وأوغلت إفسادا في البيئة والتوازن الطبيعي، ما سبب إثارة القضايا العمالية النقابية لتعديل شروط العمل. وبالمثل طورت حركات الجماعات الخضر للحفاظ على البيئة وسائر حركات الاحتجاجات بين الشعوب.

وعلى عكس ذلك، نشأت الشيوعية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي على مبادئ تضمنها كتاب “رأس المال” لكارل ماركس وتعديلاته في عهد لينين وقادة السوفيت، حيث آلت جميع وسائل الإنتاج للدولة بوضع اليد على أنشطة القطاع الخاص الرأسمالي وتأميم الشركات بأنواعها. واعتبار أن العمل وحقوق العمال نظريا على الأقل - لها الأفضلية في سوق الإنتاج. كما لم يحظ إفساد البيئة والقيم الإنسانية وسلامة الأرواح وحرية الفرد بالاهتمام المطلوب.

ولكن النظام الاشتراكي حالفه الفشل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وعادت روسيا إلى نظام شبيه بالرأسمالية وحرية السوق. وجرى مثل ذلك في سائر الدول الدائرة في فلك الاتحاد السوفيتي وعدد من دول الشرق الأوسط ما عدا الصين وكوريا الشمالية بشكل أو بآخر. وكثرت الأسباب التي أدت إلى سقوط النظام الاشتراكي مثل استنفاد الموارد المالية في مسابقة التسلح لمزاحمة أميركا والغرب على تطوير السلاح وسوء إدارة المشروعات والمؤسسات من قبل الدولة والحزب الواحد وغير ذلك.. ولكن العامل الإنساني والأخلاقي في تدهور النظام كان هو الأهم.

وبعكس الاتحاد السوفيتي، كان لدى النظم الرأسمالية الحرة بعض المرونة في إمكان إصلاح النظام والتطوير مكنها من الاستمرار لكن في نفس الطريق. وفي الأزمة الاقتصادية سنة 2008 تدخلت الحكومات في حرية السوق، ووضعت يدها على مؤسسات مصرفية ومالية وصناعية، وضخت من الأموال والمساعدات ما مكنها من تجاوز تلك الأزمة، ولكنما نظام “النيوليبرالية” الجديد عاد كأشرس ما كان عليه تحت ظل العولمة والشركات الرأسمالية العابرة للحدود. ولم يقتصر ذلك التمدد السلطوي على الاقتصاد، بل اتجهت سياسات تلك الدول إلى السيطرة على حكومات وشعوب العالم المستضعفة بكل الوسائل غير الإنسانية بما فيها الغزو المسلح وإثارة ما سمي بـ “الفوضى الخلاقة” المدمرة.

وأصبح العامل الإنساني والأخلاقي بدوره نذيرا للرأسمالية كما كان بالنسبة للنظام الاشتراكي.

واليوم تتطلع فيه القلوب والأبصار بعد جائحة كورونا إلى ما يسمى بالنظام العالمي الجديد.

والسؤال الملحّ: من الذي سوف يصنع هذا النظام العالمي الجديد والعالم يترنح تحت عسف واستبداد القطب الواحد وما يدور في فلكه من أقطاب ذوات سطوة ونفوذ؟

إن باستطاعة الدول الكبرى المتقدمة أن تلعق جراحها من محنة وباء كورونا بما توافر لديها من إمكانات مادية وصناعية وتقنية في مستقبل قريب أو بعيد.

ولكن شعوب العالم الثالث أو النامي أو المتخلف حسب ما يناسب من تسميات سيكون أمامها طريق طويل لاسترداد عافيتها ما لم يكن لها النصيف الأوفر من مزايا إصلاح النظام العالمي.

ومطالب الشعوب قسمان: الأول فيما يتعلق بإصلاح أنظمتها السياسية وأوضاعها الأجتماعية ومسيرتها الفكرية والثقافية والتنموية وسائر ما يتطلبه النهوض بمستواها الحضاري والإنساني، أما القسم الثاني فيتعلق بما لديها من حقوق ومسؤوليات على تلك الدول المتقدمة وهي كثيرة، من أهمها - في رأيي - ما يلي:

أولا: إصلاح النظام العالمي فيما يتعلق بكيان هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتفادي نفوذ القطب الواحد وتوابعه في استغلال حضورها ونفوذها على حساب مصالح شعوب العالم.

كما يقتضي من المؤسسات والكيانات المنبثقة عنها والتابعة لها تقديم أولويات تنمية الشعوب وأولويات سلامة البيئة والصحة والتعليم على غيرها. كما يقتضي الإصلاح إعادة النظر في النظام النقدي وسياسات الرقابة ومنح قروض التنمية من قبل منظمة النقد الدولي والحكومات للدول المستحقة بلا شروط تعجيزية ومن دون فوائد.

ثانيا: من خلال تطبيق نظام العولمة وفتح الأسواق العالمية على مصراعيها وإلغاء ضرائب الحماية المحلية تبين أن المستفيد الأوحد من العولمة هي الدول الصناعية المتقدمة وشركاتها العملاقة على أساس الربح المادي دون اعتبار للعوامل الإنسانية والأخلاقية.

وقديما كانت دول العالم المتخلف تنادي بتخفيف تلك القيود؛ لكي تنمي صناعاتها وخدماتها لتصبح قادرة على التنافس مع غيرها في السوق الحرة.. ولكن من دون أن تسمعها أذن صاغية.

ثالثا: يحدثنا التاريخ الحديث عن دول الاستعمار، كيف أنها نهبت ثروات الشعوب في إفريقيا وشتى بقاع العالم بلا رحمة، واستفادت من تلك الثروات في بناء نهضتها الصناعية وتوفير الأمن والرفاهية لشعوبها. والسؤال: أليس من حق تلك الشعوب التي استنزفت ثرواتها دول الاستعمار أن تطالب تلك الدول بالتعويض عما فعلته بعضها في شكل مساعدات مالية مجانية للتنمية وبعضها في شكل قروض بلا فوائد، والبعض الآخر في شكل متخصصين فنيين في مجالات التنمية والصناعة والخدمات وتحمل نسبة من الأجور الباهظة لتلك العمالات الفنية؟

وأخيرا أود أن أشير إلى أن ما تقدم من مطالبات تجاه الدول المتقدمة ليس معظمها من عندياتي، فقد قرات عنها فيما تمت مناقشته في مؤتمرات بين الغرب والشرق ودول العالم الثالث والدول المتقدمة ومعظمها كانت تحت مظلة المنظمات الدولية، بما يجرّني إلى الاعتقاد بأن أي إصلاح في النظام العالمي الجديد - إن حدث - لن تغنم منه البشرية خيرا إذا لم تحظ شعوب العالم المستضعفة بحقوقها في إرساء العدل والمساواة وتأمين مواطنيها من الفقر والعوز والمرض والأمية والمعاناة المعيشية في دولها المنهكة.

ويحضرني في نهاية هذا الحديث ما نسب إلى الإمام علي (عليه السلام) والخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في قولهما: “الفقر كافر، وما متّع غني إلا بما حرم منه فقير”.

 

تقي محمد البحارنة