+A
A-

التصوير الفوتوغرافي صنعة أكثر منه فنًا

في أوقات متقاربة وفي أواخر القرن التاسع عشر، عرف الناس التصوير الفوتوغرافي في أماكن مختلفة من العالم في لندن وباريس وغيرها، ولقد اكتشفه أشخاص عدة لا يعرفون بعضهم أبدا، وكانت أبحاث كل منهم تكمل أبحاث الآخرين، وبعد جهود كثيرة كانت تهدف إلى تحسين وتبسيط طرق التصوير، حيث انتهى إلينا هذا الفن الجميل كما نعرفه اليوم. هذا الفن الذي لا يزال كثيرون يأبون الاعتراف به كفن جميل بين بقية الفنون التشكيلية الجميلة، ونسأل هؤلاء لماذا تناهضون الفن الفوتوغرافي بهذه الضراوة، وتسومونه هذا النكران الفني؟ ونسمع من بعيد ومن خلف الأستار صوتا يقول لنا “التصوير الفوتوغرافي صنعة أكثر منه فن. إنه عمل آلي ليس فيه رؤيا جديدة، وهو نقل حرفي عن الطبيعة، ولكن من دون ألوان، تغلب عليه العمليات الآلية ويكاد يقتصر دور المصور الفوتوغرافي على المراقبة والتوجيه”.

ونحن نسأل متى كانت الفنون الجميلة على اختلافها خلوة من الصنعة؟ لنأخذ لوحة فنية مصنوعة من الزيت مثلا، فهل مثل هذه اللوحة خالية من الصنعة التي نعيبها على التصوير الفوتوغرافي؟ وبالتالي هل يمكن أن نتصور لوحة فنية من صنع الحياة الشعورية المحضة، ومن صنع الوحي والإلهام دونما أي تدخل واضح وصريح من جانبي الفكر والعمل؟

وهكذا نجد أن بعض الفنون الجميلة، بل كلها تقف مع التصوير الفوتوغرافي على خط المساواة من ناحية التكنيك والصنعة، ثم ماذا عن خلو اللوحة الفوتوغرافية من الألوان؟

أثبت علم النفس بالأدلة العلمية الناطقة أن الإنسان الذي يقف أمام لوحة فوتوغرافية “لوحة غير ملونة” أن هذا الإنسان يحس في حياته اللاشعورية بألوان هذه اللوحة كما هي في الطبيعة، فالجمهور يقف امام صورة فوتوغرافية، والذي كان قد خبر بنفسه الألوان على الطبيعة يضيف من عنده إلى هذه اللوحة الألوان كما خبرها وكما أحسها، لا كما وجدها في الطبيعة حرفا بحرف، وهو بهذا يضفي على الصورة الفوتوغرافية شيئا من ذاتيته، من حواسه، من رؤيته الخاصة، فيعطي الصورة قيمة لعلها تكون في بعض الأحيان أكبر من قيمة لوحة زيتية، فقط بسبب هذه الخبرة التي تعمل في نفس الجمهور والتي سبق وتفاعلت على نطاق الحياة الروحية للفنان الفوتوغرافي حين سجلها على الطبيعة أول مرة.

أما أن تكون آلة التصوير آلة صماء بكماء لا تعرف إلا النقل الحرفي عن الطبيعة، فإننا نقول “إن العبرة ليست في آلة التصوير، بل في الفنان الذي يقف وراءها، كما أن العبرة ليست في الفرشاة، بل في الفنان الذي يستخدمها، العبرة في عملية الاندماج الحسي العميق، تلك العملية التي تتم بين المصور والطبيعة قبل أن يقف هذا المصور وراء الآلة الصماء البكماء، تلك العملية التي تتطلب من الاستغراق الحسي والاندماج العاطفي أكثر بكثير مما يتصوره إنسان عادي، وقد يكون فنانا، يقف هادئا باردا أمام صورة فوتوغرافية لا يفعل أكثر من أن يثبت أنظاره عليها ويقول، إنها جميلة.

صحيح أن “الكاميرا” تسجل الموضوع كما تراه، ولكن بعد أن يكون موضوعها قد أشبع نضجا وتركيزا في أعماق المصور من حيث الموضوع والأجزاء التي يريد إبرازها أكثر من غيرها، من حيث الأضواء والظلال وتدرجها، والزوايا ومقدار انفتاحها وانغلاقها، ومجموع هذه العناصر هي تقديرات فردية لا يدركها ولا يطلع عليها غير الفنان نفسه، فضلا عن أنها تختلف من فنان إلى آخر، كل ذلك يفعله وهو لا يرجو من ورائه إرضاء أحد إلا نفسه، والتعبير عن إعجابه بالطبيعة وجمالها بعيدا عن كل مصلحة أو منفعة مباشرة.