+A
A-

“الجثث الموبوءة” .. كارثة صحية واجتماعية

مغسلو الموتى: ننظف الجثث المبوءة بالكلوركس والديتول و “الفودر”

ثياب الجثث المجرثمة ترمى بحاويات القمامة وسط الأحياء السكنية

“الصحة” تسلم الجثث للمغاسل دون الإخطار بخطورتها

 

أطباء: المواد الكيميائية لا تقتل الفيروسات

أمراض فتاكة تهدد بكارثة تمس الإنسان

هل تنتقل “لعنة الفراعنة” إلى البحرين؟

 

  في البحرين وللأسف، كرة لهب تتدحرج بصمت ومسكوت عنها على الرغم من أن مخاطرها موصوفة علمًا وشرعًا، وباختصار شديد ودون مقدمات القضية غياب التشريعات الوقائية المعلقة بالجثث المبوءة والمتعاملين معها في المشرحة من موظفي وزارة الصحة وكذلك بعض المتطوعين والعاملين في مجال غسل الموتى في جبانات المقابر.

تلك كانت الوقائع ولكن على المستوى الإنساني والأخلاقي والقانوني يجب أن تعالج القضية بصورة عاجلة من ذوي الاختصاص في المؤسسات الرسمية والمدنية؛ لأنها تنذر بكارثة انتشار أمراض وبائية معدية خطيرة تعد سببًا رئيسًا للموت وتهدد سلامة المجتمع وأمنه الاجتماعي.

ما نتحدث عنه اليوم هو ذلك المسكوت عنه والمتمثل في غياب التنسيق بين وزارة الصحة كجهة والعاملين في المشرحة وكذلك في مغاسل الموتى كجهة أخرى وأيضًا جهات أخرى لها أدوار غير مباشرة، والوزارة تعتبر المسؤول الأول في غياب التنسيق الواضح والصريح أثناء عملية نقل وتخزين وتغسيل الجثث الموبوءة بفيروسات خطيرة مثل: الكبد الوبائي والإيدز والسل وغيرها من الأمراض المعدية.

مسؤولية الوزارة أولا وأخيرًا؛ لأنها تتكتم بشأن حقيقة ووقائع الجثث؛ إذ لا تخبر القائمين على مغاسل الموتى بحقيقة أمر هؤلاء الموتى المصابين ببعض الأمراض القاتلة، وهذا ليس اتهاما على قول مرسل وإنما شهادات سند هذا الاتهام أدلى بها مغسلو الموتى. و ”البلاد” إذ تستند إلى هذا الدليل لكونها شاهدت ذلك عن كثب وبصر وبصيرة عبر معاينات ميدانية مختلفة.

شهادات ومعاينات على أرض الواقع شاهدتها “البلاد” في سعيها للتحري عن حقيقة ما يحدث في هذا السياق، فمن المتابعات الميدانية لرصد حقيقة ما يدور فجأة اتضح للصحيفة أن جثث الموتى المصابين بأمراض معدية (فيروسية، وبكتيرية) قاتلة يتم التعامل معها أثناء غسلها وتطهيرها، كما يتم التعامل مع الكلب العقور، لماذا؟ لأنه لا توجد لدى هؤلاء المغسلين ثقافة وقائية ولا أدوات وألبسة خاصة للتعامل مع مثل هذه الجثث وفي كل الأحيان، فإن وزارة الصحة لا تبلغهم عن مرض الميت خصوصا إذا كان مرضه معديا!

وثمة تساؤل مشروع، إذا كان الأمر كذلك فكيف يعلم المغسلون عن حقيقة الجثث؟ نترك أصحاب الشأن يتحدثون ليدلوا بشهاداتهم عن حقيقة ما يدور.

 

الشهادة الأولى

في رده على سؤال لـ “البلاد” عن الكيفية التي تعرف بها حقيقة مرض هذا الميت أو ذاك، هنا مُغسِّل الموتى الشيخ محمد الشيخ يدلي بشهادته. يقول: نميز الموتى المصابين بأمراض معدية بطريقة تغليف تلك الجثث؛ إذ إنها تختلف اختلافا كليا عن الجثث التي يموت صاحبها ميتة طبيعة دون إصابته بأمراض غير وبائية.ويضيف: “عادة وزارة الصحة حينما تخرج جثث الموتى تتم بصورة تقليدية مغطاة بقماش خاص بالموتى، بينما نجد جثث موتى الأمراض القاتلة المعدية تغلف بأكياس نايلون وبطريقة محكمة وهذا ما يثير الفضول لدينا بالتساؤل عن حقيقة هذا الإحكام، فنجاب بأنها جثث موبوءة”.

ولأننا مجتمعات شرقية، والبحرين جزء منها، نخاف من الحقيقة حقيقة أن لدينا ابن معاق وأن لدينا مريضا بمرض معد وخطير؛ لذلك يجد هؤلاء المغسلون أن بعض العائلات تتكتم على حقيقة مرض ميتهم أسوة بالوزارة، وفقًا لحديث الشيخ.

وفي ظل المخاطر الصحية الكبرى التي تلقي بظلالها على هؤلاء المغسلين نجدهم يتعاملون مع حرمة الجثث بإنسانية مع مراعاة الجانب الوقائي باجتهادات شخصية.

فعلى سبيل الذكر، يروي الشيخ “حينما نغسل الجثث الموبوءة نستخدم (الكلوركس) لرش الجثث و(الديتول) وصابون غسل الثياب (الفودر)؛ ثم نغسلها بعد ذلك وفقًا للأصول الشرعية”.

 

الشهادة الثانية

يشاطر بعض مغسلي موتى مقبرة الحورة ما ذهب إليه محدثنا السابق، حينما أجمعوا على صحة ما جاء على لسانه وأضافوا: إن وزارة الصحة تتعامل معنا بصورة غامضة ولا تبلغنا عن حقيقة إصابة الجثث، ومن واقع الخبرة نعرف الجثث الموبوءة من غير الموبوءة، لكن ذلك لا يعفي الوزارة من مسؤولياتها.هم يقولون: “وزارة الصحة تتذرع بأن عدم الكشف عن حقيقة المرض بعد الموت حق إنساني للمريض، لكنها تتغافل أننا كبشر لنا حقوق فهل من العدالة تحقيق الشرط الإنساني للجثث الموبوءة وإسقاطها أمام المتعاملين معها من مغسلي الجثث؟”.

ويتفوق هؤلاء المغسلون على أقرانهم في المقابر الأخرى في الاجتهاد بتغسيل وتطهير الجثث برشها بمحلول خاص بتنظيم الحمامات (فلاش).

 

الشهادة الثالثة

لا تختلف الطريقة التي يجتهد بها مغسلو الموتى لـ “تطهير” الجثث، إذ يقول عقيل الشيخ لـ “البلاد”: أعمل خلطة خاصة من أجل تطهير الجثة الموبوءة من الفيروسات، ونتقي بذلك نقل المرض، والخلطة عبارة عن (سدر، صابون، كلوركس، ديتول) نخلطها مع بعضها ونغسل الجثة مرتين بها.ويضيف: نقوم بغسل الجثة بالخلطة أولا بالملابس التي عليها وقطع القماش الملفوفة بها ومن ثم نباشر تغسيل الجثة المواد ذاتها، وبعدها نعيد تطهير الأقمشة بهذه الخلطة.

ويبين أنه يعلم أن الجثة موبوءة من خلال اجتهاد خاص به، وهو وجود بطاقة أزرق (كارد) من ضمن البطاقة التعريفية بالجثة، وبوجود هذه البطاقة نعلم أن صاحب الجثة يحمل مرضا وبائيا، مشيرًا إلى أن بعض الجثث تحمل بطاقتين أزرق ووردي (كارتين) وهذا يعني أنه صاحب الجثة مصاب بمرض الكبد الوبائي.

ويبدو أن للشيخ علاقة ودية تراكمت مع مر الزمن مع سواق سيارة نقل الموتى، إذ يشير للصحيفة إلى أنه في بعض الأحيان يخبره السائق أن الجثة موبوءة، ليأخذ احترازه منها.

وأوضح أن الملابس وقطع القماش التي تغطي الجثة تغسل أيضًا بخلطتنا سالفة الذكر، ومن بعد غسل الجثة بها نعد الجنازة من أجل غسلها الغسل الشرعي، مؤكدًا أنه تأتي ما لا يقل عن حالتين لجثث موبوءة في كل أسبوع، وقبل 4 أيام كانت هناك حالتان في يوم واحد في مقبرة الحورة بالمنامة.

وكشف أن وزارة الصحة كانت تزود مغسلي الموتى بأدوات الوقاية من الأقنعة والقفازات و “مريلة” توضع على الملابس، إلا أنه بعد تفعيل آليات التقشف توقفت الوزارة عن صرف المواد الضرورية لمغسلي الموتى.

 

ذوي الاختصاص

تلك شهادات الواقع من العاملين في الميدان لكن على المقلب الآخر هناك آراء تتمتع بمصداقية علمية من قبل ذوي الاختصاص من الأطباء.

في طرحها، توضح استشارية علم الأمراض والأنسجة ماجدة العمري أن الخلاصات العلمية الكبرى تفيد بأن الفيروسات والبكتيريا الوبائية لا تموت بموت صاحب المرض، وإنما تبقى على قيد الحياة لفترات طويلة جدًا، لا يمكن تحديد عمر افتراضي لها. وتقول العمري يجب اعتماد إجراءات وقائية مثل لبس القفازات وقناع الوجه الذي يغطي الوجه بأكمله ولبس خاص يغطي جسم المتعاملين مع الجثث. وتخلص إلى أن الجثث تبقى موبوءة إلى ما بعد الموت، وأن خطر نشر الجثث للأمراض التي تحملها قائم بدرجة كبيرة.

أما استشاري الأمراض الجلدية وأخصائي التجميل حسين جمعة فله تعقيب على ما أثير عن تطهير الجثث. يقول إن المواد المطهرة مثل: “الكلوركس” و “الفلاش” و “الديتول” وجميع أنواع “الصابون” لا يمكن أن تشكل قاتلا أو رادعًا ومانعًا لوقف انتشار الفيروسات والبكتيريا المصابة بها الجثث أو حتى وقف انتشارها على المدى المنظور، مؤكدًا في الوقت نفسه أن للجثث خطورة كبيرة على نقل المرض ما لم يتم التعامل معها بصورة وقائية وصحية سليمة.

ويلفت جمعة إلى أن السوائل والدماء التي تفرزها الجثث أثناء عملية النقل والتغسيل كفيلة بنشر العدوى.

وبدوره يكشف اختصاصي الأورام علي حسن حقيقة تاريخية وضاءة حينما يعيد للذاكرة “لعنة الفراعنة”، ولماذا سميت بهذا الاسم؟

يقول إن التاريخ العلمي والثقافي أبرز حقيقة لا جدال فيها بأن جزءا من التسمية يعود إلى كون إصابة بعض الذين كانوا يفتحون قبور الفراعنة بأمراض خطيرة معدية وقاتلة كانت قد أصيبت بها جثث بعض الفراعنة في ذلك الزمان، مما أدى لإصابة فاتح قبوهم.

ويضيف: ولو عكسنا هذا على على أرض الواقع لتبين لنا بالدليل العلمي القاطع أن الجثث تنقل العدوى لكل من يعنيه التعامل معها، ومن شأن إصابة أي فرد من هؤلاء إصابة عائلة بأكملها، ولربما تكون العائلة قاعدة لانطلاق الوباء على مستوى اجتماعي.

 

التعريف الفقهي

في إسقاطه للتعريف الفقهي، يقول إمام وخطيب مسجد الفاتح الشيخ عدنان القطان: شرعًا كما إن الله جل وعلا جعل للإنسان حرمة في حياته فله الحرمة ذاتها في مماته، ولا يجوز التعامل مع حرمة الإنسان في موته بمثل ما ورد لعلمنا في شأن تغسيل الجثث الموبوءة بمحاليل كيميائية عصرية، وبالمثل لكل من يتعاملون مع هذه الجثث من الناس الحرمة ذاتها، حرمة الوقاية وحماية النفس من الإصابة بمثل هذه الأمراض. ويضيف أن الواجب يدعونا جميعًا وفي مقدمتنا وزارة الصحة والجهات ذات الاختصاص على البحث عن حلول ذات مخرجات إنسانية تراعي حقوق جثث الموتى وحقوق المتعاملين معها من المغسلين وغيرهم.وبدوره يقول الشيخ مهدي البحراني: يستحب تنظيف الميت قبل تغسيله كما لو كان على جسده دم أو شيء من النجاسات وإزالة موانع الغسل ثم يغسل، أما تنظيفه بـ “البيوض” و “الفلاش” فأعتقد أن هذا يعد هتكًا لحرمة الميت. ويبين أن استعمال “الديتول” و “الصابون” لا بأس به، خصوصًا مع بعض الأموات الذين يكون على جسدهم قروح وجروح وذلك لقتل الجراثيم، أما تغسيله بالمواد الكيميائية ففيه شيء من الإهانة ولا يقبله عرف الناس ولا أهل الميت.

ويلفت البحراني إلى أن استخدام المواد الكيميائية أيضًا من دون أخذ موافقة أولياء الميت فيه إشكال شرعي، وعرفًا استخدام المواد الكيميائية يعد هتكًا، وعلى المغتسل يجب أن تراعي حرمة الميت المؤمن كالحي، مطالبا وزارة الصحة بأن ترشد المغسلين في كيفية عدم تفشي المرض من خلال الجثث الموبوءة وإعطائهم دورات خاصة في التعامل مع هذه الحالات.

 

الرأي التشريعي

من جانب آخر، يقول النائب السابق محمد المعرفي: لا يجوز لوزارة الصحة أن تمارس الصمت عن القضية، بحيث لا تخبر مغسلي الموتى عن الأمراض التي يعاني منها الموتى، خصوصًا الموبوءة منها.ويوضح أن عدم إفشاء أسرار المريض ليس لها محل في القضية؛ إذ إن من الواجب على الوزارة إبلاغ مغسلي الموتى بأمر الجثث الموبوءة، كما يجب عليها تدريبهم وتوفير المواد اللازمة لحفظهم ووقايتهم من انتقال الأمراض.

ويبين أن هناك إمكانات كبرى لنقل المرض في الإجراءات المتبعة حاليًا، ومن الممكن أن تحدث حالة وباء لا سمح الله، إذ من الممكن أن ينتقل الفيروس من الجثة إلى المغسل ومن ثم إلى عائلته والمجتمع وهكذا دواليك.

ويحمّل المعرفي وزارة الصحة كامل المسؤولية، شاجبًا عدم صرفها مواد الوقاية للمغسلين بحجة التقشف؛ لأن الدنانير البسيطة التي تصرف على المواد من شأنها حفظ المجتمع وحفظ الوزارة من ملايين الدنانير التي قد تصرفها بعد إصابة أي أحد منهم بالمرض.

ويضيف: ما يحدث في قضية الجثث الموبوءة جريمة ترتكبها الوزارة؛ إذ إنها غير مهتمة بسلامة المجتمع ونقل الجراثيم من الجثث، ومن ناحية ثانية لا تأخذ الوزارة مخلفات الجثة لإعدامها وتكتفي باجتهاد مغسلي الموتى الذين يرمون الملابس في حاويات القمامة الموجود في الأحياء السكنية.

 

“الصحة”

تم التواصل مع مسؤولي وزارة الصحة إلا أن جميع الخطوط باردة، ولم يرد المسؤولون على اتصالات “البلاد”، على الرغم من محاولة الاتصال مرات عدة عن القضية.

 

أخيرًا

قبل أن نسدل الستار على واحدة من أعتى التحديات، لابد أن نشير إلى أن الواجب يدعونا لأن نكون - مؤسسات ومجتمعا - وحدة واحدة في مواجهة القضية؛ لخطورتها، مثلنا كمثل وزارة الصحة والمؤسسات الاجتماعية حينما تتحد من أجل مكافحة أي وباء.