+A
A-

“البلاد” تستعرض كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” للكاتب عبدالنبي الشعلة (الحلقة الثانية)

كان غاندي هندوسيًا من الأساس ومنذ البداية، وأصبح لاحقًا هندوسيًا بامتياز وحتى النخاع، وفي الحلقة الثانية من كتاب عبدالنبي الشعلة بعنوان “غاندي.. وقضايا العرب والمسلمين يجري مسحا أوليا عند المرحلة الطرية المبكرة من عمر الزعيم الهندي.

يبسط الكاتب للقارئ الأرضية الفطرية والمساحة الانفتاحية التسامحية التي حددت مسافات الاقتراب والتفاعل الفكري بين غاندي والإسلام كفكر وكأسلوب حياة.

وقال الكاتب: عند هذه المحطة لابد أن نشير إلى أننا لا نحاول أن نوحي بأن غاندي كان يفكر في الانشقاق عن الصف الهندوسي أو كان يميل إلى الإسلام على حساب معتقداته الهندوسية، فقد كان غاندي هندوسيًا دائما.

 

مؤسس طائفة “برانامي” الهندوسية يُقدِّر القرآن وزار مكة

معابدها كانت وإلى اليوم خالية من الأصنام والتماثيل

في الثاني من أكتوبر 1869 ولد موهانداس غاندي، في غرب الهند، في مدينة “بوربندر Porbandar” الساحلية التي تحيط بها من كل جانب تقريبا مياه البحر العربي.

كانت مدينة بوربندر أحد موانئ أو منافذ التجارة ومراكز الاتصال بين الهند والدول العربية والسواحل الشرقية لقارة إفريقيا، وكانت تطل على حركة التجارة البحرية للتجار العرب والمسلمين بين بلدان الجزيرة العربية والقارة الآسيوية، والتي كانت سفنهم تحمل على متنها ثقافة وتعاليم الإسلام، وكان لها الدور الأكبر في انتشار واستقرار الإسلام وثقافته على امتداد القارة الآسيوية.

ولد غاندي وترعرع في أحضان أسرة هندوسية محافظة وملتزمة دينيا، لكنها لم تكن متعصبة أو متزمتة. والدته، بوتليباي Putlibai، التي كان لها التأثير الأول والأوفر في تشكيل وصياغة فكره الديني، كانت تنتمي إلى طائفة “برانامي Pranami” الهندوسية التي تتبع طريقة أو مدرسة عُرِف عن مؤسسها تقديره للقرآن الكريم، وقيل إنه زار مكة المكرمة، وقد تأسست هذه الطائفة قبل أكثر من 400 عام وبُنِيَتْ فلسفتها على مبدأ التوحيد والإيمان بوحدة الذات الإلهية العظمى، ولذلك فإن معابد هذه الطائفة كانت وإلى اليوم خالية من الأصنام والتماثيل، بما في ذلك تمثال الإله كرشنا، الذي يعتبره الهندوس تجسيدًا للقوة الإلهية العظمى.

 

رشق بيت جد غاندي بالنار وكادت تودي بحياته

كان يعمل وزيرا أولا لحاكم ولاية وغضبت منه الأميرة

موهانداس غاندي في تلك الفترة المبكرة من حياته وقف متسائلا وأحيانا حائرا عند مفترق الكثير من الخيارات والأطروحات، منها القيم والمبادئ الثقافية التي كان يروج لها الحكم البريطاني في الهند، ومحاولات التنصير التي تقوم بها الإرساليات المسيحية، والمعتقدات والأفكار التي يؤمن بها أتباع الأديان الأخرى في الهند، ومن بينهم المسلمون والزرادشتيون وغيرهم، في مقابل جهود والديه لتثبيت وترسيخ القيم التي ترتكز على أسس دينية وثقافية وتراثية هندوسية في وجدان ابنهما.

سمع غاندي وهو في صباه، أسرته تتناقل الحديث عن حادثة مروعة حدثت لجده “أوتامجاند غاندي” عندما كان “ديوانًا” أو وزيرًا أوَّل لحاكم ولاية بوربندر، فقد غضبت الوصية على العرش وقتها، الأميرة “راني روباليبا”، على “أوتامجاند” بسبب مساندته لأمين الخزانة بالقصر، الذي كانت تحاول إقصاءه والتخلص منه، فأرسلت الأميرة لبيت أوتامجاند مجموعة من حراسها المسلحين الذين قاموا برشق المنزل بطلقات نارية كادت تصيب الجد وتودي بحياته، لولا مبادرة حارسه العربي المسلم بتعريض حياته للخطر والقيام بحماية الجد وإبعاده عن موقع الطلق الناري وإنقاذ حياته.

لاشك في أن هذه الرواية قد علقت في ذهن الطفل والصبي الصغير موهانداس، وتركت أثرًا عميقًا في نفسه انعكس فيما بعد على رؤاه ومواقفه.

 

طائفة والدة غاندي تدمج الأفضليْن بالهندوسية والإسلام

كاهن المعبد كان يقرأ القرآن الكريم ولا يحبذ الأصنام

في كتابه “قصة تجاربي مع الحقيقة”، أشار غاندي إلى معتقدات طائفة برانامي، التي كانت أمه تنتمي إليها، قائلا: “إنها تسعى لدمج أفضل ما في الهندوسية مع أفضل ما في الإسلام”.

وفي الكتاب نفسه أكد غاندي: “كانت عائلتي تتبع طريقة برانامي، ومع أننا هندوس بالولادة، فإن الكاهن في معبدنا كان يقرأ من قرآن المسلمين ومن كتاب “البغوات غيتا” الهندوسي، وكان يتنقل بينهما في القراءة، ولا فرق لديه أي كتاب كان يقرأ ما دام المعبود هو الله”.

كان والد غاندي يؤمن بقيم دينية أكثر صرامة ومحافظة، تقتضي الالتزام والحرص على الصلوات أمام الآلهة والزيارات للمعابد، لكن والدته كانت أكثر مرونة وانفتاحًا، مع أنها كانت سيدة متدينة ورعة، تصوم معظم أيام السنة طلبًا للمغفرة والنقاء وبغية تطويع النفس وترويضها. ذلك الطقس الروحي الذي استخدمه ابنها موهانداس فيما بعد كأداة سياسية.

وكما ذكرنا، فقد كان الخط الديني الذي ورثته عن والديها يكتنفه نوع من التأثير الإسلامي، الذي لا يحبذ عبادة الأصنام في المعابد أو التقرب إلى الإله من خلال التماثيل، إلا أن عقيدتها الدينية اتسمت بالتشدد الصارم في تجنب أكل اللحوم وشرب الخمر والتدخين بأي صورة من الصور. لقد كانت والدة غاندي أقرب وأعز الناس إليه، وكانت محط حبه وتقديره واحترامه، وكان يعتبرها مَثله الأعلى والمحور الذي كان يدور حوله، وقد رضع من ثديها مبادئ التوحيد والتسامح.

 

أصدقاء والد غاندي... مسلمون

غرس التسامح بنفسه

رسم غاندي خارطة طريق فكرية وإستراتيجية، أو خطة عمل واضحة ترمي إلى تحقيق الديمقراطية في الهند انطلاقًا من الأسفل إلى الأعلى، أو من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى قمته، واعتبر الديمقراطية الوسيلة الأنجع لاستحداث نظام اجتماعي واقتصادي منصف يساهم في دفع عملية التحول والتنمية وتعزيزها، وكان يؤمن أيضًا بأن النظام الإداري المركزي لا يوفر البيئة الصالحة والملائمة لنجاح التجربة الديمقراطية ورسوخها.

وتحدى غاندي النظريات السياسية التي تدعو إلى “علمنة السياسة”، وتلك التي تدعو إلى “تسييس الدين” وأدرك منذ البداية حساسية وخطورة الدمج أو الربط بين السياسة والدين، خصوصًا في المجتمعات متعددة الأديان والمعتقدات الدينية كالهند، وما قد يؤدي إليه ذلك الربط من أثر سلبي على الحريات والأقليات والحقوق الفردية والجماعية، إلى جانب ترسيخ انشقاق قوى المجتمع وتقوقع وتخندق مكوناته الدينية وتشتيت جهودها وبعثرة عطائها ومساهماتها، إلا أنه كان في الوقت نفسه من بين أوائل المفكرين في العصر الحديث الذي رفض القطيعة والفصل بين الدين والسياسة.

وفي هذا الصدد تحضرني كلمات معبرة تنسجم مع هذا الفهم قالها، بعد عقود من وفاة غاندي، المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي، في إحدى محاضراته عندما قال “أتمنّى أن يصل الدين إلى أهل السياسة، وألا يصل أهل الدين إلى السياسة”.

 

غاندي دخن وأكل اللحوم بمراهقته ثم توقف

ارتبط بالشيخ مهتاب الصديق المسلم الطائش والمتهور

في مرحلة دراسته المدرسية، وعندما كان في سن السادسة عشرة، ارتبط موهانداس غاندي بصداقة حميمة ووثيقة مع شيخ مهتاب، وهو طالب مسلم يدرس في المدرسة نفسها التي كان غاندي يدرس فيها.

لقد وقفت والدته وزوجته وأخوه الأكبر ضد هذه العلاقة ليس لمجرد أن مهتاب كان مسلمًا، بل لأنهم كانوا يخشون على ابنهم أيضًا من تأثير ذلك الشخص على سلوكه، فقد كان مهتاب شابًا معروفًا بطيشه وتهوره وتحرره في الكثير من النواحي.

لقد خافوا أن ينحرف ابنهم ويتعلم من مهتاب أكل اللحوم والتدخين وشرب المسكرات ومعاشرة المومسات.

أصر موهانداس على الاحتفاظ بتلك العلاقة، ولعل تلك كانت أيضا من بين المؤشرات المبكرة على استقلاليته ومقاومته لكل أشكال التفرقة والتعصب مهما كانت المبررات، إلا أن شيخ مهتاب، كما يُستشف من مذكرات غاندي، لم يكن أنموذجًا لشخص يستطيع أن يترك أي أثر إيجابي على من يصادقه ويرافقه، إضافة إلى ذلك، فقد كانت الفترة التي تعرف فيها غاندي على شيخ مهتاب وصادقه ربما كانت بداية الطريق في سعيه نحو اكتشاف الحقيقة وبداية مرحلة الصراع مع الذات والتمرد على التقاليد والموروثات، وهي حالة تولد الاستعداد للاقتراب من المحظورات والمحرمات.

في خضم هذه الهواجس بدأ غاندي خفية وخلسة يدخن ويأكل اللحوم مع مهتاب. ولمدة سنة كاملة أكل غاندي اللحم ست مرات، لكنه ضاق ذرعًا من هذه الممارسات التي اعتبرها صبيانية، كما أنه لم يستطع الاستمرار في خداع نفسه، ففي داخله كان يؤمن بأن التدخين آفة مضرة، وأن اللحوم هي في الحقيقة نتاج العنف والموت والقتل لمخلوقات الخالق.

لم يستطع أيضًا الاستمرار في الكذب على والديه وإخفاء هذا الأمر عنهما، ولذلك قرر التوقف عن التدخين وأكل اللحوم وأقسم بالامتناع عن ذلك ما دام والداه على قيد الحياة. وأخذت علاقته بشيخ مهتاب تتجه نحو الفتور والضمور.

 

“ليس هناك أي أمل في علاج هذا العالم المريض إلا عبر طريق اللّاعنف وهو طريق مستقيم وضيق”.

غاندي