في مساءٍ صيفيٍ بحريني، وتحديدًا في مركز الأيام الإعلامي، التقت الحروف بالوفاء، والتقت الكلمات بالمحبة، في لحظةٍ كانت جزاءً عادلًا وتكريمًا مستحقًا للأستاذ الكبير عيسى هجرس. لم يكن ذلك الحفل مجرد إجراء رسمي لتقديم درع وإلقاء كلمات مجاملة، بل كان حكاية حب تمشي على قدمين، تُروى في نظرات من عرفوه وأحبوه، أو حتى أولئك الذين سمعوا عنه فقط، فشهدوا له.. وكأن قطعةً من المحرق تمشي، وتبتسم، وتكتب الشعر، وتحلّق بأجنحة الكلمات.
عيسى هجرس ليس مجرد فنان، ولا مجرد شاعر. بل هو روح سخية نادرة، تتجاوز التصنيفات والانتماءات، هو المهندس الذي لم تكتفِ أنامله برسم مسارات الطائرات في السماء، بل رسم بها أيضًا مسارات الشعور على الورق، وفتح مدرجات الخيال والإبداع لكل من أنهكتهم العزلة، وكانوا بحاجة إلى دفعة من الإلهام. لم يتردد يومًا في مدّ يد العون، أو في أن يكون سندًا لأحد، بل كان دومًا أول الحاضرين، وأصدق القلوب التي يمكن الاتكاء عليها. حين قال الشاعر الكبير إبراهيم الأنصاري إن عيسى هجرس “قلب يحتضن كل الناس”، لم يكن يستخدم المجاز، بل كان يصف رجلًا جعل من قلبه مأوى لكل من يعبر من ضيق إلى أمل. قلب عيسى لا يُقاس بمدينة، بل بوطن كامل.. وإن كنا نبحث عن سر هذا الاتساع، فلن نحتاج إلى عناء البحث؛ فالرجل ابن المحرق، وتلك وحدها تفسّر كل شيء.
المحرق، المدينة التي تشبه قصيدةً منقوشة بملح البحر، والتي تملأ “فرجانها” وبيوتها بعطرٍ لا يُنسى، هي التي شكّلت وجدان هجرس. منها تعلّم دفء المجالس، والكرم وصفاء النية، والإيمان العميق بالإنسان. ومن “دواعيسها” الضيقة أدرك أن الكلمة الطيبة قادرة على فتح أبوابٍ مغلقة، وأن ضحكةً تخرج من القلب تصنع جسورًا خفية، محسوسة أكثر من أن تُرى. عيسى هجرس يُشبه المحرق في كل شيء، في تواضعه، في كبريائه النبيل، في صدقه، وفي تلك الروح التي لا تذبل مهما اشتدت عليها رياح الزمن. مثل مدينته، كلما لامس الملحُ الجرحَ، زاد عبيرًا وصفاءً. لا يحمل ضغينة، ولا يسعى وراء الأضواء، ولا يعيد ترتيب المشهد ليُصفّق له أحد. هو كما كان دومًا: صديقًا للناس جميعًا، شاعرًا بنبضهم، وإنسانًا نادرًا في زمن القحط.
ما ناله من التكريم ليس سوى إقرار بما يعرفه الجميع، فبعض الناس وُلدوا كبارًا، لا لأنهم سعوا إلى العظمة، بل لأن في داخلهم من السخاء والنبل ما يجعل المديح مجرد “تحصيل حاصل”! فكرم اليد لا يأتي إلا من كرم النفس، وعيسى هجرس يملك من كليهما ما يكفي لإطعام الشعراء معنى القصيدة، ولريّ الفنانين من ينابيع الصفاء. هنيئًا لعيسى هجرس هذا الحب الذي يحيط به، وهنيئًا للمحرق بابنها الذي لم يتركها أبدًا، بل ظلّ يعكس وجهها بكل ما فيه من نُبل وطيبة وعراقة. وفي زمنٍ قلّ فيه الوفاء، يبقى هجرس، كما وصفه الأنصاري، “قلبًا يحتضن كل الناس”، بل وربما أكثر من ذلك.
كاتبة وأكاديمية بحرينية