استطرادًا لحديثنا في الأسبوع ما قبل السابق تحت عنوان “البحرين والحريات الصحافية”، ننوّه هذه المرة بما حققه الجسم الصحافي البحريني ومؤسساتنا الإعلامية عمومًا مؤخرًا من مكتسبات مهمة، نرجو أن تكون مقدمة نحو تحقيق مكتسبات أكبر في المستقبل القريب، وعلى رأس تلك المكتسبات، إقرار قانون جديد للصحافة والطباعة والنشر مبدئيًّا، والذي يتضمن إلغاء العقوبة السالبة للحرية في القضايا المتعلقة بالنشر، وكذلك تضمين القانون الجديد فصلًا خاصًّا بالإعلام الإلكتروني يلغي الرقابة المسبقة على ما سينشر أو يتداول في المواقع الإعلامية الإلكترونية، ما عدا الدين والذات الملكية. وإذ تشكل هذه المكتسبات ثمرة وتتويجًا لجهود وتضحيات طويلة خاضها وقدمها الكثير من الصحافيين والمواطنين على السواء، فإن ما تحقق يُعد كذلك مكسبًا وطنيًّا مهمًّا؛ باعتبار أن حرية الصحافة في كل دول العالم ركن أساس من أركان الحريات العامة. والجميل أن صحافتنا المحلية توحدت مقدمًا في موقف موحد يشهد لها للضغط من أجل تحقيق ما تحقق، وهنا يقتضي الشكر والتقدير إلى ملك البلاد المعظم الذي تفهم الإرادتين الصحافية والتشريعية توطئة لإصدار القانون المنتظر، وإلى البرلمان بغرفتيه. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر ننوّه هنا أيضًا بأن صحافتنا المحلية، مهما كان حجم الاختلاف معها حول هامش الحريات المنشودة لكتّابها، فإنه تشهد لها مواقف عديدة في ضرب المثل في احترام الرأي والرأي الآخر أكثر من بعض جمعياتنا السياسية نفسها، خصوصًا بالنظر لما يدور داخل بعضها من مواقف تناقض تمامًا ما ترفعه من شعارات نضالية صاخبة للدفاع عن حريات الرأي أو الحريات العامة في البحرين.
ولا أتردّد هنا بأن أسوق في هذا الصدد مثالًا حيًّا من سياق تجربة مررت بها شخصيًّا قبل نحو ثلاث سنوات ونيف. إذ بعد اطلاعي بانتظام على أعداد تصدرها نشرة “التقدمي” الشهرية لسان حال “جمعية المنبر التقدمي” المعروفة باعتدالها اليساري “الشديد”، وملاحظتي عدم اقتصارها على احتضان الأقلام الحزبية فقط لأعضائها على صفحاتها، بل واحتضانها الكثير من الأقلام المثقفة غير الحزبية، ولا سيما الكاتبات والأديبات البحرينيات؟ واحتفاؤها بهن وبالكتاب غير الأعضاء بالإشارات عنهم في الصفحة الأولى، تشجع كاتب هذه السطور للكتابة فيها كقلم مستقل أيضًا، وقد تم النشر له بانتظام على امتداد ثلاث سنوات مقالات سياسية مختلفة، هي في الواقع بمثابة دراسات صحافية لا مقالات عادية، ومع ذلك لم تر إدارة تحرير النشرة ما يستحق التنويه عن أي منها أو الإشارة إليها في الصفحة الأولى، حتى وقع الفأس في الرأس عندما سولت لرئيس تحريرها نفسه فوق كل ذلك بأن يحجب أو يصادر مقالاً كتبه كاتب هذه السطور، عن الدور السوفييتي لا في تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل نكبة 48 فحسب، بل وإمدادها بالسلاح إبان النكبة. ولم يكن ما كتبه الكاتب في مقاله من وحي تخيلاته المريضة أو افتراءاته تجنيًا على الصديق السوفييتي، أو تنكرًا لما قام به من أدوار تاريخية مهمة مشهود له بها لدعم القضية الفلسطينية على امتداد عقود طويلة من عمره وعمر القضية الفلسطينية، بقدر ما كانت حقائق دامغة موثقة كشف عنها القادة السوفييت أنفسهم في مذكراتهم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والمنشورة في روسيا، والتي تحدثوا عنها لاحقًا إلى قناة RT الروسية في برنامج “رحلة في الذاكرة”.
والحال لم أكن أتوقع البتة أنه بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود ونصف على سقوط المارد الجبار الذي لا يُقهر، تخللتها اعترافات ومراجعات عديدة لليسار العربي، وانتقدت بشجاعة مواقف الاتحاد السوفييتي في هذا الشأن، أنه مازال بين ظهرانينا عبَدة (بفتح الباء) للاتحاد السوفييتي أكثر من السوفييت أنفسهم، بل وأكثر من اليسار العربي، وتحديدًا الشيوعيين العرب منهم، لا بل لعل رئيس تحرير نشرة التقدمي ومساعديه لم يقرأوا قط في حياتهم تلك المراجعات التي قام بها السوفييت والشيوعيون العرب أنفسهم بعد سقوط “المارد الجبار” الذي بدا في أوهام مخيلتهم لا يُقهر لا خلال حياته ولا في مماته على طريقة “عنزة لو طارت”. فكان عهدنا القاطع بالطلاق البائن هذه المرة مع تلك النشرة إلى الأبد. والحق فقد حاول الأمين العام الجديد لجمعية التقدمي الأصغر سنًّا مقارنة بالأمناء العامين السابقين، نقول حاول مرارًا وتكرارًا جاهدًا معي مشكورًا للعودة للكتابة في نشرة التقدمي، إلى درجة أن طلب مني أن ترسل المقالات إليه شخصيًّا ليضمن لي مقدمًا عدم حظرها أو مصادرة أي منها، إلا أنني تمسكت بموقفي بعدم النشر فيها بعد تلك الواقعة، ورغم ما حدث فإنني أقولها بصدق ما زلت أكنّ كل الود والمحبة العميقة للصديق رئيس تحريرها ومساعده، وعلاقتنا لا تزال تتميز بالاحترام والود المتبادل سيما وقد جمعتني معه ذكريات جميلة خلال حياتنا الدراسية الجامعية في القاهرة أوائل السبعينيات. كما سبق للأمين العام الجديد أن اقترح ذلك الاقتراح الغريب لتمرير مقالاتي دون تدخل أمينها العام السابق ورئيس تحريرها الحالي، لشطب ما يود شطبه أو حظر ما يود حظره من مقالات العبد لله الفقير، وإذ شكرته على محاولاته الدؤوبة لاستئناف كتابة مقالاتي في نشرة المنبر الغراء مذكرًا إياه بأنه بالرغم مما أكتبه في نشرتهم لا أبتغي منه مالًا أو شهرةً، إلا أنني نبهته بأن مثل هذه الطريقة في مساعيه المحمودة لا أرتضيها لكرامتك ولا لكرامة الصديق الحميم رئيس التحرير، عدا أن مقالاتي في الواقع هي دراسات لا مقالات تأخذ مني جهدًا ووقتًا عظيمين، بعضها لا يستغرق أسابيع بل شهورًا مني لإنجازها، كالمقالة التي تمت مصادرتها والتي كانت حصيلة تفريغ تسجيلات طويلة من برنامج “رحلة في الذاكرة” المسجلة في اليوتيوب. ثم يأتي قلم رئيس التحرير، سامحه الله، بكل سهولة وببرودة أعصاب ليقرر بجرة قلم سريعة مصادرة المقال دون أن يرف له جفن لما بذله كاتب المقال من جهد مضن كبير أخذ منه زهاء شهرين لتفريغها وتلخيصها محللة تلخيصًا وافيًا.
كاتب بحريني