العدد 5973
الخميس 20 فبراير 2025
بين طوارئ الثقافة ومِبْضَع المثقف
الخميس 20 فبراير 2025

الثقافة إذا لم تتحوّل إلى طبيب مختص لدخول غرفة الطوارئ وإجراء - وبكل جرأة - عمليات جراحية بمبضع النقد والتشكيك لعقل الإنسان ومفاصل وعيه، فهذه ليست ثقافة. أسمع وأنا في صومعتي الخاصة حجم الضجيج، الذي يبدو بعضه كهدير مدفع، وبعضه كحفيف شجر، الذي يرتفع مع أصوات المختلفين والداعمين على ما أكتب وهم في مجالسهم. ما يؤنسني هو اصطفاف الكثير مع ما أطرح في السوشيال ميديا... أنا أراه أملًا في التغيير، وانقلابًا في العقلية، خصوصًا بعد تسرب الخطاب من مسامات جسد القرية واستحواذه على أرصفة المدن كالمجلات المهربة.

قبل 23 سنة كانت بعض المقالات النقدية أشبه بالبيانات السرية التي يقرأها البعض بعيدًا عن شرطة العقيدة، أما اليوم فبدأ جدار الخوف ينكسر، بل وصل أن عددًا كبيرًا من القرى كسرت حاجز الخوف، وخرجت باحتفالات لمناسبة المولد الميمون الأخير. الثقافة ما قبل الموسيقى والفن والرسم والنحت هي عملية فدائية في تغيير عقل الإنسان. التحدي الأكبر لأي مثقف في أي مجتمع هو كيف يجري عملية جراحية دقيقة في دماغ جزء من مجتمع يعاني من غيبوبة ثقافية وسياسية واجتماعية؟ هذا أكبر تحد يلاقيه المثقف. وهل يمكنه الصبر على هذه المهمة الصعبة في السير على شارع ثقافي مليء بالزجاج المنثور واللعب بشفرة حلاقة فكرية أو حمل مطرقة الحرف لتحطيم تماثيل فكرية حزبية مسيَّسة بقيت لسنين تمنع من انفتاح الناس على التنوير؟

لـ23 عامًا وأنا أحفر أخاديد ولم أتعب، يقول نزار قباني عن نفسه: “أنا كثعلب الغابة لا أريح ولا أستريح”. يقول الكاتب التشيكي كافكا: “إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ الكتاب إذن؟ إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا، هذا ما أظنه”. أقول: على المثقف أن يشعل الحرائق الفكرية، ويوقِّع عقدًا مع الزلزال ويصنع الطوفان ليحصل التغيير. يقول الفيلسوف الفرنسي ألبرت كامو: “أصبحنا في زمن يحاسب الإنسان على صدقه”. وصلتني رسائل مفادها: “نحن لن نعطي أموال الخمس لأحد بعد اليوم، لا وكيل ولا مرجع. نحن فقراء، كيف نخمس؟ وإذا فاض بنا المال سنخمس بأنفسنا بأن نعطي مالًا للمحتاج حسب تقييمنا نحن”.

 بعضهم أرسل رسالة قال: “ابنتي كنت أقنعها بلباس الحجاب الأسود فقط، الآن تلبس حجابًا غير الأسود... لم يتغير شيء... تعجبت كيف كنت أقمعها لسنين على لون حجاب، أو وضع عطر، أو لباس جميل!! والطامة الكبرى اكتشافي أن ذلك ليس حرامًا”.

أحدهم أرسل: “ليش ما يوم سمعنا خطيبا يكلمنا عن السعادة وثقافة الحياة، وما تكتبه عن كوكتيل الحياة؟ لماذا لا نسمع خطباء يحدثوننا بأحاديث تتحدث عن أهمية الاقتصاد أو كيف إنسان يخطط لمشروع استثمار! أو أهمية السياحة والسفر لدول جديدة نتعرف على ثقافات العالم؟”. آخر قال: “غربلونا بسوالف النسوان. كأن ما همهم إلا المرأة. في هوس مو طبيعي... حولوا المرأة كأنها عفريت، والرجل مثل ذئب... وصل الهوس بهم أن ذهاب امرأة لشراء في بقالة موضوع “خطير” يطرح على المنابر كفزعة اجتماعية وتحشيد... تصور؟ فعلًا بعضهم لازم يتعالج عند طبيب نفسي”.

آخر قال: “تصور يشتمون التيك توك وغيره وهم أنفسهم ينزلون محاضراتهم في التيك توك. إنهم أمام المرآة دائمًا يجعلون الناس في أجواء تحذيرية كأن هناك منعطفًا خطيرًا أمام العفة والشرف وأمام المنعطف لافتة مكتوب عليها “الرجاء ربط الأحزمة، وممنوع الدخول لهذه المنطقة فهي منطقة خطرة”. إنهم يمتلكون قدرة استثنائية على ارتكاب الأخطاء تجاه المرأة وخصوصيات المجتمع. الحقيقة أن لا أحد قادر بعد “نكسة” فشل التنغيص على المولد التشاطر على وعي المجتمع. رب ضارة نافعة، وأن مزيدًا من قرارات وأحكام الفاستفود الفقهية التي تنزل كمطرقة على رؤوس الناس، والتي ينزل بعضها فجأة ببرشوت تزيد من وعي الناس وتحرّر الكثير من القفص وحزمة البرسيم.

 آخر رسالة وهي الأهم من التي وصلتني من رجل دين: “قال لي: هل تعلم أن هناك الكثير من رجال الدين وطلبة العلم الطيبين والوسطيين، وهم غير متحزبين، ولا يتدخلون في السياسة، يتم قمعهم أو منعهم من الخطابة أو التضييق على أرزاقهم ويتم تشويه سمعتهم ويفرضون عليهم حصارًا اجتماعيًّا فقط لأنهم وسطيون ولا يؤمنون بالأحزاب أو أنهم يؤمنون بفصل الشعائر عن السياسة؟ تحدث عنا في مقالاتك، وما نعانيه من تخويف وغربة وضغوط وتجييش ضدنا!!”. أقول للحالمين بالتنوير ما قاله محمود درويش يومًا: قف على ناصية الحلم وقاتلْ فَلَكَ الأجراسُ ما زالت تدق ولك الساعة ما زالت تدق، فالحلم لا يموت ولا تقهره الثوابت وأجراسه لا زالت تدق، وإن شابته الشوائب وإن حاربته الأقدار وخانته المصائر”.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية