العدد 5952
الخميس 30 يناير 2025
الثقافة والتسكع في الطرقات الموحشة
الخميس 30 يناير 2025

ماذا إذا تسللت الثقافة إلى الفن؟ ماذا إذا اقتنصت الثقافة السياسة وجعلت عليها حراسة إنسانية؟ ماذا إذا تنقلت الثقافة بين حقول الألغام التاريخ المنفجرة غباءً وزرعت مكانها وردًا وفكرًا؟ ماذا إذا استبدلت الزنزانات بنوافذ مفتوحة على أكسجين التنوير؟ ماذا إذا تحولت الثقافة إلى حقل مليء بالأشجار، تتدلى منها ثمار الكتب، يقطف هذه الكتب الأطفال الصغار؟
المثقف الحقيقي هو الذي لا يبحث عن رضا الجمهور إن رضي، ولا يتأثر حزنًا إذا سخط الجمهور. يقول برنارد شو: “اثنان بالمئة من الناس يُفكرون، ثلاثة بالمئة من الناس يعتقدون أنهم يفكرون، وخمسة وتسعون بالمئة من الناس يُفضلون الموت على التفكير”. 
دور المثقف أن يزرع التفكير ويحرّك الدورة الدموية للأسئلة في عقل البشر، أن يشغل الناس عن التوافه إلى حيث الروافد، ومن الصراخ إلى النجاح، ومن الجدل إلى الأمل، حتى لا ينطبق علينا القول: “أشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى إصبعي”. الجمهور مثل طفل صغير يرضى بقطعة حلوى كما يقول نزار قباني، و “على المثقف ألا يضيع عناوين الجمهور”. المثقف هو الذي يذهب إلى كل مكان ببندقية الصيد ليصطاد المعرفة، وذوق الناس، وخبزهم الموزع في الطرقات ليحوّله إلى مشروع شبع.
دور المثقف أن يجلس مع الناس في مقاهيهم المعتقة بالقِدم، يجلس معهم، يربت على أكتافهم، يلمّ شعثهم، يكفكف دموعهم، ويحوّل الثقافة إلى مناديل تمسح دموعهم من قسوة الحياة وجروحهم التي لا تنتهي. كما يقول الإمام علي (ع) عن الحياة: “فخلط الله حلاوتها بمرارتها”. 
لا يهمني ما ترتديه الثقافة من ملابس، المهم أن تلبس الثوب الشعبي كل يوم، وتنزل إلى الشارع، وتجلس على الأرض وتأكل “المجبوس” معهم دون ملاعق كما هي حياة الفلاح. تكتشف ذوق الجمهور، تلامس تراثه، تتحدث عن زمنه الجميل، وتذكره بأحلى الطفولة وذكريات الفرح عندما كان الفرح طفلًا يسير في الطرقات حافيًا، لكنه ينتعل براءته دون حسابات معقدة لسياط العولمة أو توحش الهواتف الذكية، ولا سياط الشركات العالمية التي تعصر بعضها العالم كبرتقالة يمتص عمرها بلا تأمين.
المثقف هو من يضع للوطنية أولوية ويمنحها جناحين لترفرف في آفاق الانتماء بعد أن تسيدت الأيديولوجيات وألغت الوطنية والأوطان باسم الدين والعرق والهوية. كما هي المقولة: “اعبد حجرًا لكن لا ترميني به”. 
المثقف هو الذي لا يعبأ بشرطي العقيدة، ولا بضابط التاريخ وهو يفتش حقائبه بحثًا عن فكرة التنوير أو الحداثة أو الإنسانية أو الحضارة، متهما إياه بمحاربة السماء. المثقف هو من يكون شفافًا كضوء قنديل، ومرهفًا كجناح فراشة، وحساسًا كوتر في قيثار، لكنه أمام فرض الحقيقة حاد كخنجر يماني، ومخيف كسمك قرش. المثقف لا يكون جزارًا بل قيثارًا أو كيتارًا، يكون ضابط إيقاع الحياة.
ما أجمل أن يكون الإنسان على هيئة آلة “الكمان” ويسعى لتحويل “رامبو” السياسة إلى “البانجو” والموت إلى آلة “اللوت”، وكل الذين عانوا إلى بيانو، والأغلال إلى “الأكلال” باختصار أن يحول الأوجاع إلى آلات موسيقية بعزف ثقافي ويجعل للجروح أجنحة. المثقف النرجسي سايكو أشبه بتمثال ديناصور جامد متصلب ينتهي به المطاف إلى مكان لأعشاش العصافير ورطوبة الزمان. 
المثقف الحقيقي هو من يحمل وطنه على ذراعه كجندي يحميه بالفكر والقلم أمام صيادي الخرائط المتنقلين بحثًا عن موائد مشتهاة من تقسيم البشر والأوطان، ميلشيات وتوحش أحزاب وضباع تخلف تاريخ. المثقف الحر هو الذي يصارح الناس بما في داخله بوجه حقيقي على طريقة “اقبلوني كما أنا” دون تزييف المزيفين تحت قناع الزهد الذي يخفي تحته مناجم ذهب باسم الله لمن يدّعون أنهم “صانعو الأحكام والأختام والأحجام”.
المثقف هو من يسعى للحفاظ على أكبر عدد من الناس من الانتحار الجماعي السياسي أو الثقافي، ولو قابلوا ذلك بسجن المثقف في الخانات الخائبة من هندسات كهفية على شكل معسكرات فكرية تشبه معسكرات الحرب العالمية الثانية. على المثقف أن يحمل المطرقة ليكسر الأصنام الفكرية والمفاهيم الأسمنتية التي أساءت للحضارة وقيم الإنسانية والدين. يحمل ترسانته المعرفية بأدوات النقد المعرفي الأبستمولوجي وبذخيرة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والأدب ليعمل عمليات جراحية للواقع، فلا غبي في الوجود، بل إنسان يحتاج إلى رفع وعي.
كل ذلك لإطلاق سراح الفلسفة ومنحها الحرية تحت شعار “عندما ينام الأغبياء تنهض الفلسفة لتمشي في الشوارع الموحشة”. الثقافة التي تدعو الشباب إلى ثقافة الحياة كما يقول جبران خليل جبران: “أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة”. بثقافة الحياة سنحصّن جمال الوجود دون تحويل الياقوت إلى تابوت.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية