إذا أردنا تبسيط معنى هذا الحس الشعوري، وأقصد هنا كلمة “مونو نو أوا ريه” (mono no aware)، فيمكن أن نعتبره نوعًا من الأحاسيس والمشاعر التي تتراءى لنا ونتحسسها في وقائع الأشياء وأحداثها من تجليات لمشاعر الفناء والرثاء والشفقة والشجن وهوان الأشياء وضعفها وتنهدات الأسى، وغيرها من صور الأحاسيس المختلطة المعبرة عن واقع الكون المحيط بالإنسان، وتستطيع أن تجد هذا التعبير مستخدمًا في الكثير من كتب التراث والتاريخ والأساطير والشعر القديم، ولكن تأتي على رأسها كجامع لمعانيها الرواية المعروفة باسم “رواية الأمير غنجي” التي كُتبت إبان عصر “هيآن”، ومنذ ذلك العصر وحتى يومنا هذا، يحمل اليابانيون بين صدورهم تقاليد هذا الحس الشعوري للتعبير عن كلمة “مونو نو أوا ريه”، بل قل إنها بمثابة أحد معايير قواعد إدراك مشاهد الحياة المختلفة في المجتمع الياباني.
كان العالم الياباني “موتو أوري نورينغا”، عالم الدراسات اليابانية المعروف آنذاك في عصر “إيدو (1603 - 1868 م)”، شديد النهم بالبحث والتحليل عن كينونة الشخصية اليابانية من خلال التعمق في النظر في رواية “الأمير غنجي” وغيرها من الكتب التراثية الأخرى، إلى أن توصل إلى قناعة بأن مفهوم تعبير “مونو نو أوا ريه” (mono no aware) هو المفهوم الأمثل للتعبير عن حقيقة وجدان الشخصية اليابانية”. يقول “نورينغا” مُفسّرًا رؤيته: “إن المرء خلال حياته الطويلة يُقابل الكثير من الأحداث والتجارب والصعاب التي لا محال من التعامل معها ومواجهتها، وهنا يستطيع الإنسان إدراك حقائق الأمور من خلال الصعاب والخبرات التي يمر بها وتفهمه وقائع الأمور والأشياء الحادثة من حوله.
فلقد كان اليابانيون في الماضي أكثر إدراكًا لما يدور ويحدث حولهم من تغيرات للأمور والأشياء المكونة للبيئة والطبيعة، سواء أكان هذا مُدرَكًا أم غير مُدرَك حسيًّا، مثل مظاهر التغير والتحول لعوامل الرياح والغيوم والأزهار والمياه، والنظر في تلك التحولات والتغيرات بمنظار يتساوى مع ميزان الوجدان والشعور الإنساني للفرد. فنجد الأعمال الأدبية لتلك الحقبة تدور أحداثها حول الأسى والألم من فناء الحب وعبثية الفراق والموت، والحرقة والولع والمشاعر التواقة والإحساس بعدم دوام الأمور والأشياء وفناء الحياة، وكل هذا يحتويه مفهوم كلمة “مونو نو أوا ريه” (mono no aware).
أما عن الشخصية العربية وحسها الشعوري الإدراكي، فهي ليست بعيدة عن هذا النوع من المشاعر والأحاسيس اليابانية الجياشة، فالحس اللغوي العربي هو وليد ثقافة الكلمة بشعرها ونثرها، فطالما أحب العرب - قبل ظهور الإسلام وبعده - الإبحار والتعبير عن مشاعر الفناء واللقاء والفراق والرثاء والحياة والعبر من أحداثها وصعابها ومحطاتها، فكانوا يُنشدون مشاعرهم المخلوطة بالأسى والفرح والألم والشجن وغيرها من أحاسيس مُدرَكة وغير مُدرَكة بكلمات قصائدهم المتنوعة. وهكذا، وعلى غير المتوقع، نجد أنفسنا أمام نقطة التقاء مُمثلة في الحس الشعوري اللغوي تجعل من اليابانيين والعرب القدامى على مسافة أقرب في الحس والإدراك مما هم عليه الآن.
أستاذ الدراسات اليابانية والترجمة بجامعة طوكاي اليابانية