أعلم أحيانًا أني أكتب بشفرة حلاقة، وأستبدل الحبر بالرصاص رغم أني أكتب بلا بوصلة تأمين، ولا سفرة واقية عن قناصي النقد. أعلم أن هذا اليراع قد يتحول بلحظة إلى هدير مدفع، وكلماته حادة كأسنان سمك قرش، متوحشة كتمساح، لكن صدقوني بداخل الكلمات فراشة زرقاء اقتنصتها من حديقة أغلب أجزائها احترق في مراهقاتنا السياسة.
ليس قدرنا كمجتمعات أن نستبدل أعمدة الكهرباء إلى أعواد مشانق، وأسفلت الطرقات إلى جلود بشرية، ولا أوراق صحافتنا إلى صفحة وفيات نتبارى في صناعة الموت.
حتى أصبح دم هؤلاء الشباب أرخص من عصير البندورة، بإلقائهم في مغامرات سياسية مكاسبها تقوم على تضخم أرتال الجثث، تحول عن رؤية الشمس، كيف يختبئ خلفها أمل متشظ أو زهرة حزن فقدت كل الأمل فراحت على حافة النهر للانتحار، كما حدث في فخ “الربيع العربي” في 2011.
أقول، أنا شخص عنيد في الحداثة، والانحياز للحضارة، فلا أعرف المراوغة في ذلك.
أحمل بين يدي مشرط كلمات، أحارب عن الحداثة وأنا عنيف في الحياة، وشرس بوحشية تمساح في قضم جمال الوجود، وجندي لا يمل الخدمة، ولو مجانًا في معسكر الدفاع عن حياة الناس، لذلك يدي على الأمل لسوريا ويدي الأخرى على قلبي.
أتألم للإنسان الذي يراد إدخاله إلى تنور خبز الاحتراق السياسي بغض النظر عن من هو ومن يكون! لأن عقيدتي هي الإنسانية جمعت حمضها النووي من كل بحيرات الإنسانية المخبأة في كل الأديان وأدبيات العالم.
ما يهمني هو رفض منح سجل تجاري لمخبز فرن آخر لخبز بشري يتم التحضير له بتحويل البشر إلى معجنات وأرغفة ساخنة من الجلود على موائد مافيات الطوائف وبرغماتيات السياسيين السيكوباتيين.
لقد حدث ذلك في ليبيا والعراق والحبل على الجرار، وأتمنى أن تسلم سوريا من هذا المصير.
المخابز الجوالة لجلود البشر تنقلت بين إيران وأفغانستان والعراق ومصر ولبنان، وما زالت توزّع اللحوم المغلفة بسندويشات ملفوفة بالأمنيات عبر وجبات الموت في هذا الشرق الأوسط، الذي هو وسط في الاسم لكنه على حافة الانهيار الحضاري.
يتعبني رؤية طفل عربي في غزة أو غيرها من بقاع العالم، يبحث عن قطعة خبز يسد بها رمقه ويسد بها جوع الضمير العالمي للإنسانية.
إني وجدت طوفان الأقصى خطأ فادحًا، فيحيى السنوار ربما أحيا اسمه على الشاشات لكن أمات الأحياء بالرشاشات، وانطفأت القناديل بعيون الناس بسبب المغامرة التي تحولت إلى فرامة لحم للجميع.
ما كان نصًرا كان هزيمة مهربة إلى شواطئ عقولنا في صناديق عليها علامة إصبع النصر، لكن الإصبعين مقطوعتان.
اسمحوا لي صراحتي، فأنا لا أحب الكتابة متخفّيًا كلص تسلل إلى منزل مترف يخشى أن تصطاده الكاميرات أو العيون.
أنا أكره اللصوصية في الكلمات والمواقف أو وضع القناع أمام “كابينة” جمارك الجماهير، مخافة أن يمسكني شرطي الجمهور يسأل عن جواز سفر كلماتي على صفحات جرائد الحدود.
أعلم أن صراحتي جارحة، وقادتني للمبيت في مخيمات الثقافة لطالبي اللجوء العربي لغفران الجماهير، لكني أنا أرفض الطبطبة على كتف الجمهور كي يرضى كطفل صغير بقطعة حلوى، كلمة خادعة تغذي جرحه النرجسي لهزائم متتالية من هزيمة الأندلس إلى هزيمة العرب في هزيمة 67 إلى كارثية خطأ طوفان الأقصى.
الكاتب مثل استعلامات المستشفى، يجب أن يصارح أهالي المتوفى بحقيقة وفاة أمهم، وهو يعلم ربما يكون هذا أسوأ خبر يصدره للمتلقين. يموت الإنسان بموت أمه، فيكف إذا كانت الأم هي الأرض؟
على سياسي الإسلام السياسي فهم أن السياسة ليست تنفيس غضب و “فشة خلق”.
السياسي المحنّك هو الذي يمتلك معابر لغضبه قبل معابر وأخبية للمناورات.
العناد شيء، والإسناد شيء آخر.
الاتكاء على مخدّة الغيبيات يخرج الإنسان عن الواقعية إلى حيث الرومانسية السياسية.
استفيدوا من اليابان، فبعد الحرب العالمية الثانية وقصفها بالقنابل النووية انخفض عندها منسوب النرجسية المتضخم والعناد المتفاقم على جيرانها ونظرية لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، واتجهت للاقتصاد والعلم والديمقراطية.
لم نسمع عن ياباني فجّر نفسه أو تباهى بعضلات التاريخ أو استخدم سكينًا طائفية ضد جيرانه خصوصًا بعد عودته لرشده.
ما أجمل أن تنتقم بأن تكون بخير اقتصادًا وعلمًا. أجمل الانتقام أن تكون قويًّا في الاقتصاد والتعليم وبناء دولة حديثة لا مؤدلجة.
اسمحوا لي تمثيل دور الجرّاح، وأنا أخيط جروحًا إقليمية بقلم أصبح كمشرط، لكن هدفي هو إنقاذ المريض، فالخرائط التي يكثر اصطفاف جماهيرها في عمليات الإنعاش دليل على فشل العقلية وسوء الأداء.
أنا منذ صغري كنت أتنقل على خريطة السياسة بحقيبة سفر كما يتنقل سائح أوروبي في الأقصر، حاد النظرة، ونهم لابتلاع وتجربة كل شيء، ولا أدخلها إلا سريعًا كتناول وجبة مسمومة مضطر لابتلاعها على عجل. وعندما أبقى أتناول هذه الوجبة.
كل الأمل أن سوريا تختار الحداثة والديمقراطية والتعددية وفصل الدين عن السياسة، فلا تقع في شرك الأفخاخ…
هي بين خيارين لا ثالث لهما، إما سكين الطائفية أو شجرة ياسمين الديمقراطية.
في بداية كل حُكم كما هي العلاقات العاطفية، هناك علامات حمراء تظهر باكرًا لإعطاء تنبيهات بالأخطاء التي قد تتحول إلى كوارث مستقبلًا تحت مقولة “النهاية بنتُ البداية”.
رأيناها في إيران والعراق وتونس واليمن، وكل الأمل ألا تقع سوريا في ذات الأخطاء.