في مقالنا المنشور في “البلاد” بتاريخ 31 أغسطس الماضي تحت عنوان “الصدر والأحوال الشخصية” نوهنا بأن استقبال السفير العراقي في لندن محمد جعفر باقر الصدر وفداً من “رابطة المرأة العراقية” لتسليمه رسالة موقعة من 14 منظمة نسائية ومدنية، ينطوي على دلالات دينية وسياسية واجتماعية، ودرءاً للإطالة لم نشأ حينها استعراض تلك الدلالات التي نتناولها اليوم. بدايةً كان بوسع الرجل الاعتذار عن استقبال الوفد، بأية ذريعة كانت، أو تكليف أحد مساعديه بالإنابة عنه، لكن مجرد حرصه على استقبال الوفد بنفسه والإنصات إلى عضواته يحمل دلالة لافتة في حد ذاتها، فما بالنا وقد فتح حواراً جدياً مفيداً معهن وتعرف على أوجه اعتراضاتهن على تعديل قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، لما فيه من إجحافات صارخة بحقوق المرأة والطفل والأسرة، ومن ثم وعده لهن بإيصال الرسالة إلى الجهات العليا المعنية، وهذا الموقف يحمل أيضاً دلالة فارقة، إذا ما علمنا أن القوى السياسية الدينية في البرلمان التي تنوي إدخال التعديلات أغلبها ممن تتحدث باسم تراث أبيه الفقهي والسياسي.. على أن هذه المفارقة سرعان ما تتبدد إذا ما وضعناها في سياق مسألتين مهمتين: الأولى تتصل بسيرة الرجل السيد جعفر، الابن الوحيد لأبيه حيث عاش يتيما بعد استشهاد أبيه (1980) وهو في العاشرة، والمسألة الثانية تتعلق بما يشكله اسم الولد اليتيم من موقع حميمي في أفئدة المتحزبين لأبيه، حيث كانوا يكنون أباه في أناشيدهم الحزبية باسمه، سواءً كان تحزبهم له مبدئياً، أم بعد ما تحوّل عند بعضهم لمتاجرة سياسية ذات مصالح طبقية فسادية بعد وصولهم للسلطة. وفي أواخر التسعينيات، بعد أن شب الولد عن الطوق أرسله عمه (الشهيد الثاني المرجع السيد محمد صادق الصدر) إلى “قم” ليتولى مكتبه فيها وكيلاً باسمه، وحقق المكتب نجاحاً باهراً، وكان معظم رواده من طلبة الحوزة العراقيين العرب و أبناء الجالية العراقية في إيران عموما، ما أثار بشدة حفيظة صحف السلطة التي هاجمت عمه ونعتته بفقيه “سلطة البعث”! فلم يستمر المكتب إلا تسعة أيام حتى داهمته المخابرات “إطلاعات” وأغلقته بالشمع الأحمر، واعتقلت جعفراً ، ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية.
والحال أن الشاب تعلم ذاتياً من تجربة أبيه القاسية التي أودت بحياته، وقد اختارها حسينية المنتهى، في حين كان بالإمكان تجنب هذا المصير باعتراف المؤسس الأب الروحي لمشروع حزب الدعوة، الشيخ السيد طالب رفاعي (أمالي السيد طالب الرفاعي، رشيد خيون)،والذي وصف الشهيد باقر الصدر في هذا الكتاب بأنه قليل الخبرة، وانتقد اختياره الموت استشهاداً (ص 205). وبدا السيد جعفر قد اتعظ في دواخل نفسه من تجربة أبيه، ناسفا ضمنياً عدم صحة مقولة “الولد سر أبيه” صحةً مطلقة. وكان أن درس في حوزة قم حتى مرحلة “دراسات الخارج”، لكن لم يكمل هذه المرحلة وقرر خلع العمامة، مع احتفاظه بلحية خفيفة، ثم اختار دراسة الأنثربولوجيا في الجامعة اللبنانية وحمل منها شهادة الماجستير، ثم عاد إلى بلاده بعد سقوط النظام، وترشح في الانتخابات البرلمانية على قائمة “ائتلاف دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي المسؤول عن سقوط الموصل في أيدي داعش، وفاز فيها، لكنه سرعان ما استقال ملمحاً لعدم جدية هذا الائتلاف في محاربة الفساد وتردي الخدمات، ثم عُيّن بعد سنوات قلائل سفيراً للعراق في لندن.
وخلاصة القول فيما يُستفاد من سيرته أنه قرر الابتعاد عن التحزب مع تجنبه التصادم مع الأحزاب الدينية المشروعة، وبضمنها الناطقة باسم أبيه، واعترف بعدم قناعته بالاسلام السياسي (الزمان، 12 مارس 2022)، وبإعجابه بتجربتي خاله المغيب موسى الصدر وعمه محمد صادق الصدر البعيدتين عن التحزب، وبسبب كونه الابن الوحيد للشهيد المرجع محمد باقر الصدر وانتهاجه نهج الحياد واتقاء التصادم مع الأحزاب الدينية؛ كسب احترام الجميع، وعُين في المكان الدبلوماسي رفيع المستوى المناسب ليكون ممثلاً حقيقياً للعراق بتعدديته العرقية والقومية والدينية غير الحزبية، والتزم الصمت حينما طُرح اسمه مرشحاً لرئاسة الوزراء في أزمة شغور هذا المنصب، وهذا دلالة على زهده في ذلك المنصب مفضلاً منصبه سفيراً في لندن، كما لو كان هذا المنصب قد جاء مفصلاً على المقاس الذي تهواه نفسه، بدلاً من العودة إلى الداخل للعمل على ساحة سياسية ما فتئت شديدة الاضطراب.
*كاتب بحريني