العدد 5494
الإثنين 30 أكتوبر 2023
banner
"مصاء الخير"
الإثنين 30 أكتوبر 2023

مذيعان جعلا الحياة مشوقة في عيني طفل وحيد يعيش في مدينة نائية.. مصطفى محمود، وحامد جوهر (مع حفظ الألقاب). مصطفى محمود كان رجلًا لا ينظر إلى الكاميرا، ويبدو متوحدًا بروح مبتسمة مندهشة تحرضك على التحليق، كانت الموسيقى المميزة لبرنامجه (مقطوعة الناي التي يلعبها محمود عفت) حزينة حزن الأنبياء، وكانت تثير في قلبي مشاعر الخوف، لكنه ليس خوف أيام الامتحانات، بل خوف العشاق على قصة حبهم.

كانت حلقات "العلم والإيمان" فجوة في جدار الثوابت المحيطة بعقلي كطفل، كانت المادة الفيلمية التي يذيعها مصحوبة بتعليقاته الساخرة المتعجبة جذابة أضعاف جاذبية جريندايزر، والرجل الأخضر، ومارك المخلوق البرمائي. كان مصطفى محمود أول من عرفني على وجه آخر لله بعيدًا عن وجه معاقبة تاركي الصلاة أمثالي ومكافأة المصلين أمثال ابن خالتي، عرفني مصطفى محمود على وجه غامض وساحر لا تملك حياله سوى التصفيق الحاد والانحناء احترامًا، شيء ما بداخلي كان يحرضني للانحناء لله بعد كل حلقة من "العلم والإيمان"، وهكذا تعلمت الصلاة.

لا أعرف ما الذي جعلني مغرمًا بحامد جوهر وبرنامج "عالم البحار" غرامًا يثير الكوميديا في عائلتي، ربما كنت أرى في "ذقنه البيضاء" تعويضًا عن وفاة جدي، ربما لأنه كان يحدثني عن البحار التي حرمتني منها النشأة في الصعيد، ربما لأنه كان يعرض أفلامًا عن "كلب البحر" حيواني المفضل، الحيوان الوحيد الذي تمنيت اقتناءه، ربما بسبب خامة صوته العميقة القادمة - على رأي حليم - من أعماق البحر. كان صوته فاتنًا بكل ما فيه من هدوء وجاذبية ووقار يليق بقبطان معتزل، كنت أُقلد صوته فأُضحك أمي، لكن عندما شاهدنا مسرحية "العيال كبرت" وسمعنا سعيد صالح يقلده، رأيت على وجه أمي ملامح الامتعاض. في أول زيارة لي للإسكندرية كنت أتوغل في الماء بحثًا عن الكائنات التي عرفني عليها حامد جوهر، لكنني عدت محبطًا إلى مدينتي حيث لم ألتقِ إلا بالقواقع ولسعات قنديل البحر.

في نهاية هذا الصيف توقف برنامج "عالم البحار" نهائيًّا، وبعدها بقليل تُوفِّي الدكتور حامد وغاب عن ذاكرتي. بعدها بسنوات زرت شرم الشيخ في منتصف الشتاء ومارست السنورلكنج، وشاهدت عالم الكائنات البحرية الملونة لأول مرَّة في حياتي. عدت إلى الفندق متعبًا، وقبل النوم سحبت جريدة "الأهرام" وسيجارة، ودخلت الحمَّام قرأت في حظك اليوم: "اليوم تلتقي بأصدقاء قدامى"، قلت لنفسي: "أصدقاء قدامى مين وأنا داخل أنام؟"، وأسفلها بقليل في زاوية "حدث في مثل هذا اليوم" كان السطر الأول يقول: "وفاة الدكتور حامد جوهر رائد علوم البحار".

كاتب مصري

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية