بدايةً وقبل أن ندخل في صلب الموضوع، يطيب لنا بمناسبة يوم "حرية الصحافة العالمي" والذي احتفلت به مملكة البحرين والمجتمع الدولي مؤخراً، أن نتوجه بأحر التحيات ومشاعر التقدير إلى كل زملاء "مهنة المتاعب" كما اُصطلح على تسميتها في عالمنا العربي، وعلى رأسهم في صحيفة "البلاد" رئيس مجلس الإدارة الأستاذ عبدالنبي الشعلة، ورئيس التحرير الأستاذ مؤنس المردي، وسائر الزملاء في الصحيفة، وجميع أعضاء الأُسرة الصحافية البحرينية، وإلى الزملاء في صحافتنا العربية والعالمية، وعلى الأخص العاملين بمبدئية وتفان وإخلاص في هذه المهنة لعشقهم إياها، غير مبالين بمخاطرها على صحتهم النفسية والبدنية، بل وعلى حياتهم. يكفي أن نشير هنا إلى أن تقرير "مراسلون بلا حدود" الأخير أكد أن 70 % من دول العالم يعمل الصحافيون فيها في ظروف سيئة، في حين جاء في كلمة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، في المناسبة نفسها، أن حرية الصحافة تتعرض لهجوم في جميع أنحاء العالم، مندداً باستهداف الصحافة، مؤكداً أن "كل حرياتنا تعتمد على حرية الصحافة.. حرية الصحافة هي شريان الحياة لحقوق الإنسان".
وعودة إلى صلب موضوعنا، حول الأزمة السودانية، فإنه بادئ ذي بدء يمكننا التأكيد بأنه لا يمكن الوصول إلى مقاربة سياسية تتكهن بمستقبل السودان في ضوء تطورات الأزمة التي تفجرت عسكرياً على نحو دام مؤسف منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، ومازالت متواصلة حتى ساعة إعداد هذا المقال، دون التذكير بسلسلة الانقلابات العسكرية بدءاً بانقلاب 1959، بعد ثلاث سنوات فقط من الاستقلال، حتى الصراع العسكري الدامي الراهن الذي ما فتئنا نتابع فصوله - بقلوب ملؤها الألم - حيث تدور رحى معاركه في المدن بين طرفين عسكريين لحمل الآخر على الاستسلام، بغية استفراده وحده بالسلطة وإقصاء الآخر.
ومع أن الانقلابات السودانية تتشابه في تكرارها بانقلابات بعض الجمهوريات العربية، إلا أن ما يحدث في السودان بين مشروعي انقلابين هو الأعنف والأخطر في تاريخ الانقلابات السودانية والعربية، ليس بالنظر لأحداثه الخطيرة الدامية التي تعصف بالبلاد - شعباً ودولة - فحسب، بل والنتائج الوخيمة التي ستظل البلاد تعاني منها لفترة طويلة تضع علامات استفهام على المستقبل المجهول الذي ينتظرها دولةً وشعباً.
ولعل من المفيد هنا الرجوع إلى واحدة من الدراسات التي تناولت بالتحليل ظاهرة الانقلابات العسكرية العربية، وفد أعدها الباحث الأنثروبولوجي اللبناني الراحل فؤاد إسحاق خوري وصدرت 1990 عن دار الساقي، غداة انقلاب الجناح العسكري للإخوان المسلمين بقيادة الجنرال عمر البشير تحت عنوان "العسكر والحكم في البلدان العربية"، فمما جاء فيها حول البلدان العربية التي عرفت ظاهرة الانقلابات: "... وطالما أن الجيش مؤلف من عدة فئات وإثنيات متنوعة، فهو بالتالي يلعب أدواراً سياسية متنوعة. وطالما أنه لا يقوم على أساس القواعد الديمقراطية، فمن الصعب توقع إنجازات ديمقراطية منه. فالانقلاب العسكري، وكحدث فردي لا يأتي عن طريق مجموعة كبيرة من الضباط، إنما عن طريق شلة صغيرة من الضباط". (ص 78)، ويضيف في موضع آخر من الدراسة حول الوضع الداخلي في المؤسسات العسكرية "... ان دوائر النفوذ ضمن المؤسسة العسكرية تُبنى لا على أساس الأداء إنما على أساس القرابة والزواج والأصل الإثني والعائلي". ورغم مرور أكثر من 30 عاماً على صدور الدراسة، إلا أن الاستنتاجين المذكورين مازالا يصحان في تفسير انقلاب عمر البشير "الإخواني"، وما تمخض عنه من تداعيات حركية شعبية أفرزت صراعا بين قيادتي الجيش والدعم السريع (البرهان وحميدتي) على السلطة، كما يفسر أيضا جانباً مهما رئيسيا في ظاهرة الانقلابات العسكرية، وصولاً إلى الانقلاب الأخير.
وإذ لم تفد كل مناشدات ومبادرات الدول العربية والجامعة العربية المتكررة، فضلا عن مبادرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بالإغاثة لوقف فوري لإطلاق النار من قِبل الطرفين، تخفيفاً على الأقل من حدة الكارثة والمحنة المأساوية التي تأخذ بخناق شعبهما، حيث تزداد أعداد القتلى والجرحى من المدنيين بالآلاف، عدا عن عشرات ألوف النازحين الفارين، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي جعلت أكبر شريحة من الشعب تتضور جوعاً جراء الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها، فضلاً عن ازدياد أعداد الجرحى والمرضى التي فاضت بهم المستشفيات لعدم قدرتها على استيعابهم، فإن ذلك كله ليبعث حقاً على التشاؤم حول مستقبل السودان الغامض جراء هذه الحرب الداخلية، خصوصاً إذا ما تواصلت، والسؤال عما إذا الدول العربية - المقتدرة مالياً - والتي تم تجاهل مبادراتها - بإصرار عنيد - ستبدي حماساً كافياً لدعم أي منهما، أو أن تثق في قيادة المنتصر لإدارة وقيادة إعادة إعمار ما خربه الانقلابيون بحق البلد، والذي سيدفع فواتيره بالدرجة الأولى شعبهما المغلوب على أمره.
كاتب بحريني