في السياسة كل شيء محكوم بالمصالح والمتغيرات؛ وفي السياسة أيضًا ليس ثمة شيء اسمه ثوابت أو مفاجآت، فلم يكن أحد يتوقع أن تتوصل المملكة العربية السعودية وإيران إلى اتفاق بوساطة ورعاية الصين؛ التي حققت بخطوتها هذه اختراقًا ومكسبًا استراتيجيا في منطقة الشرق الأوسط، ووسعت من محيط نفوذها على حساب الولايات المتحدة، وأحدثت اهتزازًا في منظومة العلاقات الدولية مع دول المنطقة.
وعلى الرغم من أن البيان المشترك الذي أعلن التوصل إلى الاتفاق لم يتضمن في هذه المرحلة أيًّا من التفاصيل المتوقعة واكتفى بذكر اتفاق الطرفين على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية وعودة السفراء خلال مدة أقصاها شهران، إلا أنه وبطبيعة الحال لا شك يتضمن ملحقات وضمانات وتفاهمات مسبقة واتفاقيات سرية جانبية ستتكشف تفاصيلها مع مرور الوقت وتطور الأحداث.
ولا شك أيضًا أن المباحثات المغلقة التي جرت بين أطراف الاتفاق قد قطعت شوطًا واسعًا في تغطية وتفكيك كل القضايا الأساسية التي تم الاتفاق بشأنها بما يرضي طرفي النزاع قبل إعلان الاتفاق، كما أن تأكيد البيان على التزام الطرفين بتطوير علاقة حسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية يفضي إلى التوصل إلى الكثير من الاستنتاجات، ويحمل الكثير من الرسائل والدلالات المطمئنة، ويجعل هذا الاتفاق اتفاقًا أمنيًا بامتياز، اقتضته حالة من الانتهاكات الأمنية التي ارتكبها واحد من طرفي الاتفاق.
والواضح من البيان أن إيران هي أيضًا المعنية بالالتزام بسياسة حسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية؛ إذ لم يتهم أحد قط السعودية بالتدخل في الشؤون الداخلية لإيران أو انتهاك سيادتها، إلا أن أصابع الاتهام من دول المنطقة وباقي دول العالم ظلت تتجه إلى إيران وتتهمها بالتدخل المكشوف في الشؤون الداخلية لدول المنطقة؛ وإلا ماذا يعني وكيف يفسر تواجدها في لبنان واليمن وسوريا والعراق وتدخلها في الشؤون الداخلية للبحرين وما شابه؟
وعلى الرغم من ذلك؛ فإن الجميع مدعو إلى عدم الاستماع للمشككين من المتاجرين والمقتاتين على الصراع القائم بين البلدين وعلى توتر الأوضاع الأمنية في المنطقة، وعلينا جميعًا أن نتحلى ونتسلح بالثقة والأمل وأن ننظر إلى هذا التطور بكل ايجابية وتفاؤل وافتراض حسن النوايا، فالطرفان في أمسِّ الحاجة إلى إنهاء حالة التوتر والقطيعة والصراع الدائر بينهما منذ سنين، مع أن إيران هي الأكثر حاجة إلى وضع حد لهذه الحالة، فعلى الرغم من الحاجة الملحة للسعودية لإنهاء الحرب في اليمن فإنها أثبتت صلابتها في مواجهة التحديات وقدرتها على التصدي وامتصاص هجمات الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرة، والسعودية أصبحت هي أيضًا قوة عسكرية لا يستهان بها في المنطقة، وهي تتمتع بمكانة دولية مرموقة وتقيم علاقات وثيقة مع كل الدول والتجمعات الدولية، وتشهد اليوم نموًا اقتصاديًا وإنمائيًا منقطع النظير، وتنعم بانسجام وتجانس اجتماعي واستقرار أمني داخلي؛ في مقابل اضطرابات واحتجاجات داخلية متنامية تشهدها إيران، مع تنافر بين مختلف القوميات المتعددة التي تشكل الدولة بما يهدد وحدتها، وتعاني من أزمة اقتصادية خانقة ناتجة عن المقاطعة والحصار الدولي المفروض عليها، كما تشهد توترا في علاقاتها مع جيرانها ومع معظم دول العالم، ونزيفًا وإرهاقًا ناتجين عن التزاماتها المادية والعسكرية لتمويل ودعم الحرب في اليمن والبقاء في سوريا والعراق والكلفة الباهظة لتسليح ودفع كل مصاريف ومرتبات حزب الله في لبنان؛ كما أكد منذ فترة حسن نصر الله رئيس الحزب، إلى جانب كلفة رعاية ودعم الأفراد والجماعات المنشقة التي تؤويها إيران أو تشكل أذرعها الضاربة في الخارج وغيرها من الالتزامات التي لا تستطيع إيران تحملها، والتي شلت أو عرقلت نموها الاقتصادي وأثرت سلبًا على مستوى معيشة الشعب الإيراني، ما أدى إلى تذمره وإحباطه وغليانه، ونتيجة لذلك كله فإن إيران لا شك أدركت أيضًا صعوبة الاستمرار في حالة العداء والتوتر والمواجهة مع جيرانها، وأدركت كذلك استحالة تحقيق حلمها في التوسع والتمدد وبسط نفوذها على دول المنطقة؛ وهو حلم لا يكفي تحقيقه تكديس الصواريخ والمسيرات ولا حتى امتلاك القنبلة النووية، بل يتطلب تحقيقه موارد وطاقات وامكانيات هائلة لا ولن تتمكن إيران من تحملها وامتلاك ناصيتها. ومن منطلقات منطقية وعملية أو على الأقل من منطلق “مكره أخاك لا بطل” فإن الثقة والقناعة تتعززان في تقيد إيران باحترام وتنفيذ التزاماتها في هذا الاتفاق، حتى ولو اضطرت قيادتها إلى “شرب السم” مرة ثانية.
وبالفعل فقد بدأت تتبلور بوادر وملامح حرص الطرفين وجديتهما على تنفيذ الاتفاق؛ فإلى جانب التحركات في الدهاليز وخلف الكواليس؛ فإن الحديث قد بدأ بعد أيام قليلة جدًا من إبرام الاتفاق عن استئناف الرحلات الجوية بين البلدين، والأهم من ذلك ما أكدته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قبل يومين على لسان مسؤولين أمريكيين وسعوديين من أن إيران وافقت على وقف إرسال شحنات الأسلحة السرية إلى حلفائها الحوثيين في اليمن، كجزء من الصفقة التي أبرمت بوساطة الصين لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية. نعم، لا توجد هناك؛ في السياسة مواقف ثابتة أو صداقات دائمة أو عداوات دائمة.
والاتفاق الذي تم بين الطرفين كان بوساطة ورعاية وضمان الصين؛ القوة العظمى الناهضة، ما يفرض على الطرفين إزاحة العقبات التي قد تعرقل تنفيذه؛ وعليه فإن الخطوة التالية المتوقعة والأسهل بينها جميعًا هي إن تبادر طهران بالتخلص من الجماعات المنشقة عن أوطانها التي كانت تؤويهم وتدربهم وترعاهم وتدعمهم ماديًا واعلاميا؛ فقد انتهت مهمتهم واستنفدت صلاحيتهم.
ثم ماذا استفاد في النهاية نظام طهران والشعب الإيراني والشيعة عمومًا من الدعم السخي المكلف والمرهق الذي قدمته إيران لحزب الله في لبنان ولنظام الأسد في سوريا؟ نزيف لا طائل من ورائه، وإن الأيام القادمة ستكشف عن قرار القادة الإيرانيين بوقف دعمهم لهاتين البؤرتين أيضًا، وربما سيتم ذلك بالاتفاق مع إسرائيل، وهذا ليس أمرًا مستبعدًا.
صفقة الاتفاق السعودي الإيراني هي في الواقع جاءت كالصفعة غير المتوقعة على وجه الكثير من السماسرة والمرتزقة وتجار الشعارات وأساتذة التأزيم والمقتاتين من إثارة الصراعات والفتن والنعرات الطائفية؛ وفي حالة نجاحها فإنها ستقضي على الحاجة إلى توسيع التعاون العسكري والأمني بين دول المنطقة وإسرائيل، وستنقل المنطقة إلى مرحلة من الانفراج والأمن والاستقرار والتعاون والازدهار. إن أشقاءنا المصريين لديهم مثل مشهور يقول: “إنها ضربة معلم”؛ والمعلم هنا هو الأمير محمد بن سلمان الذي يثبت كل يوم أنه قائد حكيم محنك، كان له موعد مع الأقدار في المنطقة، حفظه الله وسدد على دروب الخير خطاه.