كانت سهير القلماوي، تلميذة عميد الأدب العربي طه حسين النجيبة، شغوفةً أيما شغف بدراسةالطب والتخصص فيه إسوة بأبيها،لكن العميد رغّبها في دراسة الآداب، وصرفها عن دراسة ذلك التخصص الذي تولعت به، ومع ذلك وجدت نفسها بعدئذ تعشق تخصصها الجديد وتحبه حُباً جما،ومن يدري فلربما لو امتهنت الطب لما برعت فيه كما برعت وتألقت في الدراسات الأدبية، وعلى رأسها دراستها عن " الليالي" الاسم المختصر للأثر التراثي الأدبي العظيم الجميل "ألف ليلة وليلة". وكان اُستاذها الجامعي طه حسين هو نفسه أيضاً من أشار عليها بأن تكون رسالتها للدكتوراه عن هذا الموضوع تحديداً، محدداً لها نوعية حقل الدراسة، وما ينبغي أن تستبعده منها من موضوعات تقليدية خاض فيها من سبقوها من باحثين عرب ومستشرقين، وأشبعوها خلاصات ونتائج مجترة أو ما شابه ذلك. ولو كتب العميد في الحقل المحدد الذي ابتغاه لطالبته، لأبدع فيه بأعمق مما كتبت طالبته، لكنه وهو الذي ألّف رواية "شهرزاد" التي هي واحدة من شخوص"الليالي"، إنما أراد أن يتنازل عن هذا الحقل لها لتخوض هي فيه، لا لانشغاله وانقطاعه إلى أمور علمية عديدة فحسب، وإنما لتحقق القلماوي في حقل لم يسبق لغيرها طرقه، لعلها بذلك تسد ثغرة مهمة تشغل بال اُستاذها، مما تركه وانصرف عنه الباحثون العرب والمستشرقون. فلم يكن "العميد" بأفقه الإنساني والعلمي الرحبين تستبد به أمراض لطالما استبدت بأمزجة كثرة من كتّابنا ومثقفينا العرب المغرمين بالأضواء الإعلامية الساطعة، أوهوس الخوف من المنافسة أو المزاحمة لنجوميتهم في فضاء النشر والإعلام. وهكذا كانت سعادته الغامرة بعد نجاح القلماوي الباهر والمتميز في رسالتها والتي صدّرتها بعدئذ في كتاب وضع هو نفسه مقدمته، وكانت بمثابة مقدمة علمية ضافية، لا تقل أهمية عن موضوع الرسالة نفسها. كما كانت هذه الرسالة المتفردة المتميزة في ذلك الحقل سبباً رئيساً في حصولها على جائزة مجمع اللغة العربية 1954، وجائزة الدولة التقديرية للآداب بالاشتراك مع شوقي ضيف 1963.
والقلماوي هي أيضاً واحدة من أول ثلاث فتيات يلتحقن بالجامعة المصرية في وقت مبكر. ولعل من حسن طالعها وحظها أن أصدرت كتابها أوائل أربعينيات القرن الآفل، وكانت حينها في مطالع شبابها اليافع في عصر لما يُكفّر "الليالي " بعد، أو يبيح اجتزاز رقبتها حيثما ثقفها الأرهابيون التكفيريون، وإن أدركت بعدئذ في الهزيع الأخير من عمرها شطراً من هذا "العصر الظلامي" الذي مابرحنا نحياه للأسف، حيث تناهى إلى مسامعها ما فعلوه برقبة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وإن لم تكن إصابته قاتلة، إلا بعد بضع سنوات( ت 2006)، تماماً كما كان محظوظا اُستاذها " العميد" الذي كُفّر على إثر صدور كتابه عظيم الأهمية" في الشعر الجاهلي" دون أن يكون في زمانه أرهابيون متوحشون من طراز عصرنا، رغم انحسار أدوارهم نسبياً، ودون أن يدرك هذا العصر الردئ(ت 1973)، وإلا فلا تستبعد أن يناله ما نال محفوظ من مكروه، حتى لو لم يقرأوه او مرت عقود طويلة على كتابه الصادر أواسط عشرينيات القرن الماضي، يكفي أن يسمعوا بتكفير مشايخ عصرنا لكتابه! والقلماوي كانت محظوظة أيضاً أن أدركت هذا العصر ولم يصبها أذى( تُوفيت1997) حيث أقام المتطرفون الدنيا في ثمانينياته ولم يقعدوها؛ بسبب وجود كتاب "ألف ليلة وليلة" في الأسواق، وكأنهم لأول مرة يكتشفونه بعد مضي ألف سنة ونيّف على ظهور مخطوطته العربية، وبعد مضي قرون طويلة على وجود نسخة منها في مصر، وليتقولوا حينها على محتوياته ومضمونه مالم يقله مالك في الخمرة، فلم يتوانوا عن شحذ ما في جعباتهم من أسلحة فكرية وفقهية، مطالبين بحرقه واجتثاث وجوده من "أرض الكنانة"، وحظر دخوله إليها إلى الأبد!
والحال أن كتاب " الليالي "، الأثر النفيس الخالد المتفرد على مر العصور، والذي دُونت عنه مئات الكتب العربية والأجنبية، وصدرت له ترجمات بلغات عديدة، ورُسمت من مخيال عالمه القصصي عشرات أو مئات اللوحات، ونُظمت من وحيه مئات القصائد والأغاني الجميلة والأفلام، هو بحر غزير بحقول لآلئه التي لا تُعد ولا تُحصى، فإذا كانت القلماوي التقطت من إبحارها في هيراته دانة عظيمة، حدد معالم وصولها إليها مقدماً اُستاذها طه حسين، فإن ثمة هيرات عديدة واعدة لا تقل عظمةً، يمكن الإبحار إليها، بعد دراسة "الأثر" دراسة فاحصة معمقة ممحصة مقدماً. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تناول "الليالي" العالم الاُستاذ اللغوي العراقي الدكتور إبراهيم السامرائي من زاوية "اللهجة البغدادية" التي تتبدى في الكثير من نصوص أو فقرات ومفردات ذلك الأثر العظيم، ما يستحق أن تكون لنا وقفة قادمة مع هذا الموضوع اللغوي الشائق .