العدد 5138
الثلاثاء 08 نوفمبر 2022
الرأسمالية العالمية وتاريخ من الضرائب القاصمة
الثلاثاء 08 نوفمبر 2022

بثت قناة DW الألمانية أواخر الشهر الفائت فيلماً وثائقياً بعنوان" الدولة وأموالها .. تاريخ الضرائب" يتناول قضية عالمية آنية بالغةالأهمية، ألا هي الضرائب المفروضة من الحكومات على المواطنين أوالمستهلكين،ومنها "ضريبة القيمة المضافة" التي كانت من أهداف السترات الصفر الفرنسية لإلغائها. 
 أهمية الفيلم تكمن في كونه يساعد على تعميق فهم المشاهد لأسباب الهزات والأنفجارات الأجتماعية التي يشهدها الآن عدد غير قليل من دول العالم الرأسمالي المتقدمة،فضلاً عن دول العالم الثالث ذات التبعية لاقتصاداتها؛ وتلك الأسباب تتمثل في الضرائب التي تقصم ظهور المواطنين من الطبقات الدُنيا والوسطى على السواء، وإن بدرجات متفاوتة. والفيلم الذي هو على جزئين، طول كل منهما نحو 45 دقيقة، رغم أنه صادر عن قناة إعلامية غربية، فإنه يتحلى بقدر معقول من الحيادية الموضوعية. وهو إذ يستعين بشهادات عدد كبير من المتخصصين الاقتصاديين والمسؤولين القريبين من صنع القرار في الغرب،يمكن القول بأن جُلها يقر، بشكل أو بآخر،خطورة "الضرائب" الباهظة على تهديد السلم الأهلي الظاهري، وما تسببه من زعزعات دورية غير مأمونة العواقب على مستقبل النظام الرأسمالي. ومن أهم أولئك المتخصصين والمسؤولين: كريتسوف ستراسيل( عضو المجلس الأعلى للحسابات في فرنسا) ، جورج أوزبورن(وزير المالية البريطاني الأسبق)، جيف تيلي (الخبير الاقتصادي برابطة النقابات البريطانية)، فولففانج شويله(وزير أسبق للداخلية والمالية في ألمانيا) شتيفان باخ الباحث في المعهد الألماني للأبحاث، لوران فايبوس وزير المالية الفرنسي الأسبق، جوان تويلفس (المستشارة المحلية في حزب العمال البريطاني)، بنجامين أنجل( مدير الضرائب في المفوضية الاوروبية)، ناتاشا بوستيل فيناي الاستاذة بكلية لندن للاقتصاد. ويأخذنا هذا الفيلم الوثائقي،على ألسنة معلقيه وبعض ضيوفه، في رحلة طويلة ممتعة تنطلق من الجذور التاريخية لنشأة الضرائب، و ما سببته -ماضياً وحاضرا- من هزات وقلاقل اجتماعية في مراحل تاريخية مختلفة. ولما كان توزيع الأموال وتحصيل الضرائب من المهام المركزية للدولة الحديثة،فإنه يتتبع معنا الأزمات التي تسببها فرض الضرائب' بدءاً من الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، حتى احتجاجات حركة السترات الصفر الفرنسية التي أنطلقت منذ عام 2018، مروراً بالأزمة  المالية لعام 2008،وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية العالمية جراء كوفيد- 19 التي ما فتئت تلقي بظلالها الكئيبة على اقتصادات العالم (ناهيك عن الأزمة الاقتصادية العالمية جراء الحرب الروسية الاوكرانية الراهنة والتي يبدو أن الفيلم اُخرج قبل أن يدركها). وفيما يتعلق بأزمة 2008 المالية، والتي أفضت إلى أحتجاجات شعبية عارمة، لم تكن حركة السترات الصفر في فرنسا، ومؤيدو "البريكست" في بريطانيا، والمتضررون من الوحدة الألمانية في الشطر الشرقي، بمعزل عن افرازاتها. ويعترف الفيلم أنها تعكس جلياً تفاقم أنعدام ثقة المواطنين في حاكميهم؛ جراء السياسات الضريبية المتبعة، وظل الشعار التقليدي التاريخي المرفوع " لا ضرائب بدون تمثيل" حاضراً؛ أو يطل برأسه بتعبير أو آخر؛  لتذكير ذوي السلطة بهذه القاعدة الأساسية للديمقراطية. ولعل واحدة من أسوأ الأزمات التي مرت بها الرأسمالية وهددت السلم الأهلي والأمن الداخلي  ماحدث في بريطانيا إثر تفاقم معدلات البطالة أثناء حكم رئيسة الوزراء المحافظة مارجريت تاتشر أوائل ثمانينيات القرن الماضي؛ وذلك جراء تبنيها  سياسات متطرفة في تطبيق "النيو ليبرالية" من خلال الإيغال في الخصخصة وتخفيض الضرائب على الشركات وكبار رجال الأعمال، مما حمل العمال على النزول إلى الشوارع بقيادة نقاباتهم بعشرات الألوف، وخصوصاً عمال المناجم، والذين أستمروا في إضرابهم من عام 1984 إلى عام 1985، لكن رغم  ما يتمتع به العمال في إضرابهم من حق نقابي مشروع ومكتسب تاريخيا، إلا أن تاتشر المعروفة ب "المرأة الحديدية" سحقت الإضراب بكل قسوة، ونجم عن ذلك 3 قتلى، و20 ألف جريح، واعتقال 300 من المضربين أو المحرضين عليه. هذا في الوقت الذي كان البريطانيون يتفاخرون بأنهم أول من وضع لبنة الديمقراطية الأولى في اوروبا في القرن الثالث عشر مقرونة بضبط الضريبة، وذلك من خلال الميثاق الأعظم المعروف ب Magna Carta عام 1215 وذلك لتقييد سلطات الحاكم؛ لئلا تكون مطلقة، ومن ثم تحديد أمتيازاته. وتاريخياً، فمنذ العصور الوسطى كان الصراع بين أولئك الحكام والشعوب في اوروبا يتمحور حول قضية "الضرائب"، ويدور السجال المحتدم عما إذا هي وسيلة لخدمة الأوليجاركية الحاكمة، أم أنها تروم إلى حد أدنى من التوزيع العادل للثروة بين فئات الشعب، وقد برز شعار " لاضرائب بدون تمثيل" منذ حركة الاستقلال الأميركية، وأصبح ثمة أرتباط وثيق بين الضرائب وتجسيد إرادة الشعب للدفاع عن مصالحه في الممارسة الفعلية للديمقراطية، وفي مقدمتها حقه في إقرار سياسة ضريبية عادلة تأخذ مصالحه بعين الاعتبار.وختمت المعقبة الخارجية على الفيلم بمجوعة من التساؤلات المهمة: مانوع  الضرائب التي يقبلها الناس في المستقبل؟ هل سيتم فرض ضريبة على البيانات الرقمية في الحادي والعشرين؟ هل سيتم فرض ضرائب على الريبوتات؟ لكن سيظل ثمة سؤالان يلازمان كل أزمة ضريبية تنذر بانفجار اجتماعي جديد، وهما سؤالان لم يتغيرا -على حد تعبير المعلقة- منذ العصور الوسطى: أين تذهب الأموال الضريبية؟ وما هو نوع المجتمع الذي تساعد هذه الأموال على بنائه؟ وتختتم تعقيباتها بسؤال مقلق عريض: هل كل ماحصل عليه الناس من مكتسبات في القرن الآفل محكوم عليه بالزوال؟ 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .