العدد 4835
الأحد 09 يناير 2022
banner
بعض الخواطر بمناسبة العام الجديد
الأحد 09 يناير 2022

قبل أيام انطوى العام الماضي بتثاقل شديد، وهلَّ علينا العام الجديد ببشائر خير تجلت في أجمل صورها  بهطول زخات غزيرة من الأمطار في ساعاته الأولى. 
ونحن في جزر البحرين لنا علاقات أزلية وحكايات سرمدية متميزة مع الأمطار والمياه؛ فرغم شحة الأمطار وانخفاض معدلات سقوطها فإننا في حالة انهمارها نبدأ في اليوم التالي بالتشكي من غزارتها ومما تُسببه من أضرار لبعض المرافق العتيقة أو البيوت القديمة، والتذمر من تجمع المياه في بعض الشوارع والمناطق، ونبدأ بعدها في الذم والقذف واللوم وتوجيه الاتهام للحكومة ووزرائها ومسؤوليها بالعجز والفساد وغياب التخطيط العمراني السليم وعدم كفاءة مرافق البنية التحتية وأنظمة المجاري والصرف الصحي؛ مع إدراكنا التام لما يحدثه هطول الأمطار في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الدول المتقدمة  من فيضانات وسيول وانهيارات وأضرار جسيمة في الممتلكات والأرواح وما يتكبده الناس والحكومات وشركات التأمين من خسائر مادية فادحة.
والأمطار عندما تسقط علينا، بكميات نَصِفها بالغزيرة فإنها في الواقع وللأسف الشديد بالكاد تكون على شكل زخات متفرقة ولفترات قصار ولأيام قلائل معدودات وفي الأعوام التي تختارها، في مثل هذه الحالات فإن جيلنا ما يزال يتذكر  المرحوم يوسف بن أحمد الشيراوي (المتوفي في العام 2004) الذي كان وزيرا للتنمية بعد استقلال البحرين في العام 1970، ومن أبرز رواد النهضة في الخليج العربي، فقد كان يجهد نفسه باسم الحكومة في الشرح والتوضيح بأن تدني معدلات سقوط الأمطار ومقتضى ومنطق الأولويات يبرر ويفرض التدرج في إرساء مشاريع تمديد شبكات مجاري الأمطار، مع الحرص على القيام الفوري بشفط وإزالة المياه المتجمعة ورش المستنقعات بالمبيدات الحشرية وترميم واصلاح ما سببته الأمطار من أضرار، مع ذلك فإن المرحوم يوسف الشيراوي وغيره لم ينجحوا في إقناعنا، وما زلنا ملتزمين كل عام بترديد معزوفات التذمر والشكوى واللوم والاتهام عندما يمن الله علينا بكرمه وتهطل علينا الأمطار.
 وعندما تبخل علينا السماء أكثر، وينقطع المطر تماما في موسمه المعتاد فإننا ندرك ولله الحمد بأن الحكومة ووزراءها ليس لهم يد أو دور في ذلك، فنفقد الذريعة والوسيلة لتوجيه النقد واللوم والاتهام المعهود لهم، ونضطر إلى الاتجاه إلى الله جلت قدرته والتوجه إليه بالصلاة ضارعين؛ ولكن متغافلين عن شكره سبحانه وتعالى وشكر الحكومة لما وفرته لنا من مرافق ومحطات وأنظمة متطورة لتحلية مياه البحر وتحويلها إلى مياه عذبة صحية صالحة للشرب والري، وتوصيلها لنا بوفرة وانتظام وبدون انقطاع على مدار الساعة وتعاقب الأيام والسنين، في الوقت الذي تتصدع فيه قلوبنا ونحن نرى، على سبيل المثال لا الحصر، شعب العراق الشقيق في بلاد الخير والنفط وأرض دجلة والفرات وهو يئن ويعاني من شحة المياه وندرتها، فلحكومتنا الموقرة كل التقدير والثناء ولله العلي القدير الحمد والشكر، وهو القائل “ولأن شكرتم لأزيدنكم”.
وفي سياق الخواطر ذاتها؛ فبعد انقضاء قرابة عامين من عدم السفر بسبب تفشي جائحة كورونا، وبعد أن تلقيت الجرعة الثالثة المنشطة أو المعززة، قضيت في الفترة الأخيرة شهرين متفرقين في أوروبا متنقلًا بشكل خاص بين لندن ومدينتي مدريد وماربيا الأسبانيتين، وقد جددت التواصل واللقاء بعدد من الأصدقاء والمعارف 
هناك الذين بدوا وكأنهم يفيقون من صدمة كورونا، سمعت منهم الكثير من تفاصيل قصص المعاناة والمآسي عندما بدأت الجائحة في التفشي السريع في أوروبا قبل عامين، سمعت عن الأعداد المتزايدة من المرضى المصابين بالجائحة الذين كانوا يصارعون الموت والألم وضيق التنفس مكدسين على الأرض في أروقة وممرات العيادات والمستشفيات لعدم وجود الأسرة والأطقم الطبية الكافية، وسمعت عن عدم توفر الأدوية ونفاد أجهزة الأكسجين وانهيار المنظومات الصحية في تلك الدول المتقدمة، وسمعت عن كبار السن والعجزة الذين ماتوا وحيدين في بيوتهم وشققهم، وعن ملايين الموتى والجثث التي كانت تبحث عن من يواريها التراب أو من يؤويها  إلى مثاويها الأخيرة، وعن الأيتام والثكالى والأرامل. وعندما توفرت اللقاحات كانت ثمة معاناة أخرى للحصول عليها في البداية.
لم يصدقوني عندما ذكرت لهم اننا في جزيرتنا الصغيرة المحدودة الموارد والإمكانيات، والمدرجة ضمن دول العالم الثالث، استشعرنا فور الإعلان عن الوباء بالحاجة الملحة لمواجهته وبأنه سيتحول إلى جائحة عالمية سريعة العدوى والانتشار، فاستوردنا مسبقا الأدوية والمعدات والأجهزة المطلوبة وبالأخص أجهزة التنفس والأكسجين بكميات كافية وجهزنا مرافقنا الطبية بها، وأعددنا مرافق إضافية لمواجهة أسوأ الاحتمالات فحولنا بعض المدارس ومواقف السيارات وقاعات المعارض الكبرى إلى مراكز مجهزة لاستقبال واستيعاب المصابين وإيوائهم وعزلهم وتوفير الغذاء والعلاج اللازم لهم، وكانت ولا تزال كل هذه الخدمات تّقَدم مجانا للمواطنين والمقيمين على حد سواء ودون تفريق أو تمييز، مع العلم أن نحو 60 % من سكان البحرين هم من المقيمين الوافدين من مختلف القارات والجنسيات والأعراق والمذاهب والأديان.
ولم نغفل عن مواطنينا العالقين في الخارج بسبب تعثر حركة السفر والطيران، فوفرنا لهم، حسب امكانياتنا، المأوى والحماية والعلاج ونظمنا إجراءات وعمليات عودتهم والتأكد من سلامتهم.
وفي الأيام الأولى من ظهور وتفشي الجائحة أطلقت حكومتنا حزمة اقتصادية بقيمة 11.4 مليار دولار أخذت في الازدياد والتوسع لاحقا؛ وشملت برامج من المساعدات المالية والإعفاءات لدعم الفئات الأكثر تضررا في المجتمع، وبرامج أخرى للتحفيز الاقتصادي والدعم المالي لضمان استمرارية الأعمال وتمكين مؤسسات وشركات القطاع الخاص من مواجهة التحديات  الاقتصادية التي فرضتها الجائحة.
وكنا سباقين في سرعة استيراد وتوفير وتوزيع اللقاحات والجرعات المنشطة، وكثفنا في الوقت نفسه الحملات التثقيفية التوعوية التي كنا قد أطلقناها مع بداية تفشي الجائحة والتي كانت وظلت مرتكزة على قواعد المصداقية والشفافية، وكان لها الفضل الأكبر والأثر المتوقع في تجاوب البحرينيين وتفاعلهم وتعاونهم ما أدى إلى تقليل الإصابات وتراجعها بشكل مضطرد إلى أن ظهر متحور أوميكرون.
وقد صمدت ولا تزال مرافقنا الطبية ومنظوماتنا الصحية، وحققنا اختراقات لافتة ونجاحات بارزة في التصدي للجائحة حظيت بإشادة وتقدير الأسرة الدولية والمنظمات العالمية المختصة، كما أن الجائحة رغم قسوتها ومرارتها فإنها كشفت عن المزيد من أبرز خصائص الشعب البحريني ومدى عمق الوعي الذي يتمتع به، وساهمت في تحقيق المزيد من التلاحم بين مختلف مكوناته وأطيافه التي تجلت في تفاني وتضحيات الكوادر الصحية والعاملين في الصفوف الأمامية ضمن فريق البحرين والذين ظلوا حتى الآن يعرضون حياتهم للخطر، والذين لم تغفل الدولة عن الاعتراف بدورهم وفضلهم فبادرت بالاحتفاء بهم وتكريمهم.
قلت للأصدقاء والمعارف الذين التقيتهم في تلك المدن بأنه التزاما بمقتضيات ومتطلبات السفر والتنقل بين الدول هذه الأيام فقد قمت خلال الفترة الأخيرة بإجراء عدة فحوصات (PCR) في المدن الأوروبية التي زرتها عند دخولها وقبل مغادرتها للتأكد من عدم إصابتي بالعدوى، ورأيت كيف وأين تجرى الفحوصات في تلك المدن، ودفعت تكلفتها ورأيت طوابير الانتظار في الشوارع عادة خارج المستشفيات والعيادات، وأجريت الفحوصات ذاتها عند عودتي للوطن ورأيت الفرق وأحسست بالفخر والاعتزاز عندما رأيت التسهيلات والمرافق والمراكز التي أعدت في بلادي لإجراء الفحوصات لكل فرد وهو جالس في داخل سيارته، ورأيت الاهتمام والسرعة والتنظيم المحكم والمعاملة الطيبة من قبل فرق المتطوعين والعاملين، ومن بين هذه المراكز  المركز الكبير المعد بمسارات متعددة في منطقة البسيتين بمدينة المحرق بجوار مستشفى الملك حمد الجامعي.
إنه حقًا وطن يستحق أن نفخر به وأن نبذل له الغالي والنفيس، وكل عام وأنتم بخير.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية