وأنا أحاول منذ عشرين عاما أن أضع مبضع الجراح على مكامن الوجع في جسد هذا الوطن، كنت محملا بعبء أثقال القراءة المعكوسة للإسلام السياسي في كل ملف ومشهد وطني. كلما حاولنا أن نفتح ثغرة في جدار اليأس، نصطدم بمن يحاول ردم الثغرة بإسمنت سياسي ديني من أن الموقف “ضد الدين” في احتكار واضح لأمة بأكملها تحت وصاية رأي واحد أو رأيين أو ثلاثة، وكأننا أطفال في حضانة كبيرة، نحتاج إلى من يقودنا بفتوى يخرج منها شرر أو رأي سياسي قد يقودنا إلى الجحيم، وعلينا أن نبقى أطفالا في حضانة التفكير مهما بلغنا من الفهم والعقل والعلم والثقافة، ومهما كانت تخصصاتنا، ولو في ذات الفقه أيضا. لا تقام العلاقة مع الدولة بمنطق أما رأيي وإلا أنتم ضد الدين، هذا أسلوب لا يمكن قبوله في أكثر المجتمعات تخلفا، فالدول تقام بالقوانين لا بالمزاج الفردي. هكذا تدار الملفات للأسف منذ سنين. فعندما بدأت المشاركة النيابية في 2002 أُطلق الرصاص على سمعة المشاركين بحجة الدين بأن المشاركين “شياطين “مع إلباس لبوس البطولة للمقاطعين في مشهد مأساوي ينم عن عدم رؤية دقيقة للحدث وقصور في فهم السياسة. وكذلك الأمر في التجييش ضد قانون الأسرة في 2008 والذي قاد إلى تكدس البحرينيات المعلقات كنتيجة طبيعية عندما يتم التعصب لآراء قادت إلى صناعة مجتمعات مخطوفة ضد مصالحها في عزلة كونية، حيث العالم يتسابق في الحضارة والاستثمار الاقتصادي والتكنولوجيا، ونحن مازلنا نناقش بضرورة حصر المرأة قانونا وشرعيا تحت مزاجية وتقدير قاضي رجل دين قد يخطئ وقد يصيب.
واستمر ذات السلاح في الأحداث المؤسفة في 2011، حيث خطيئة “الاستقالات الجماعية”، حيث “الربيع” الذي كان أشبه بلعنة سياسية لم تراكم إلا الجثث وخراب الأوطان والفوضى وضياع زهور شبابية في ليبيا واليمن ومصر وغيرها. كانت الاستقالات من البرلمان خطأ كارثي لم يقد إلا لتراكم الفواتير السياسية. واستمرت العقلية الأحادية تراكم الخسائر وفي بقية الأمور والملفات حتى أمام قانون العقوبات البديلة في تحدٍ حتى لأهالي المحكومين الذين كانوا يتصلون بي مباركين ومساندين لموقفي وموقف غيري في الدفاع عن القانون، وكان بعضهم يرتجف في الهاتف خوفا من إسقاط سمعتهم في الوحل السياسي، وكانوا مصدومين من هذه الاستماتة في الهجوم على القانون تماما كما يحدث اليوم من صدمة المعلقات من هجوم مستميت ضد ملفهم الدامي ورميهم أنهن ضد الدين. والآن في ملف المعلقات يُعاد ذات السيناريو، وأهالي المعلقات يتصلون بي يبكون دما لمثل هذا المواقف التي تقف ضد حل ملف بناتهم المعلقات لسنين من قبل ذات من وقفوا ضد قانون العقوبات!
لا يمكن أن تستقيم الأمور بهكذا عقلية تقوم على العناد، وثقافة الارتطام بالجدار، فهنا لن يحصد الوطن والناس غير مزيد من الخسارات الفادحة. هذا المنهج يقوم على صناعة بشر يرفضون الدولة ويفرضون الدويلة، أما نحن أو لا أحد.
وتلك هي مشكلة الدولة اللبنانية مع الإسلام السياسي من فرض هيبة دويلة الإسلام السياسي في قبال الدولة المدنية الجامعة، وتكون النتيجة ما وصلت إليه الدولة اللبنانية إلى حافة الانهيار على جميع المستويات وإلى عزلة سياسية اقتصادية اجتماعية. والغريب أننا نكتشف أخطاءنا بعد تكدس الضحايا ودفع الفواتير، ولكن التعصب يقودنا إلى تكرار ذات الأخطاء، ثم نتوقف في منتصف الطريق؛ للبحث عن حل متناسين أن السياسة وعي وطني وإنساني ولعبة الأذكياء في المرونة لا العناد، ونكون أشبه بعدّاء يتوقف في ذروة العدو؛ كي يحاول فهم مبرر السباق، ولماذا نجح الآخرون وخسرنا في منتصف السباق. وبقينا سنوات نسير على حد شفرة التفسير الأحادي في العلاقة مع الدولة، فكانت النهاية انسداد آفاق تنموية لنا ولغيرنا، متناسين أنه لا يمكن أن يرتهن مصير نصف مجتمع لأشخاص مهووسين بعناد الدولة في الإيجابيات والسلبيات.
هذه ليست “عزة” ولا “كرامة” إنها الصلابة الوهمية التي لا تقود إلا إلى انهيارات مؤجلة على شكل إضاعة أجيال وفرص مجتمعات بسبب كارثية خطاب أو قرار يأتي من الخارج. لقد أصبحت الإخفاقات تطاردنا بسبب عدم تغيير العقلية، وإعادة ترتيب العلاقة مع السلطة. لذلك أقول وأنا ترافعت - رغم الخناجر المغروسة في السمعة - عن عشرات الملفات الوطنية والإنسانية، ولم أمل ولن أمل، دون أن أعبأ بمثل هذه الآراء، طارحا قناعتي بكل وضوح وشفافية ولو لأجل مستقبل يكون فيه الناس أكثر وعيا. أقول: إن ملف المعلقات لا يمكن أن يكون مصيره كمصير الملفات السابقة التي أصابها العطب بسبب آراء غير دقيقة حتى في فهم الدين؛ لذلك سأبقى أطالب بقانون الأسرة علميا وقانونيا وفقهيا وإنسانيا، ولو بقيت وحيدا لله وللأجيال وللتاريخ. وفي السياسة أقول لكم، السياسة لعبة الأذكياء، فاخرجوا من الغيبوبة السياسية أو جلباب التزمت الديني، فكما قال الرسول (ص): (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)، فشاركوا في الانتخابات النيابية القادمة. اكسروا حاجز الخوف والصمت وإلا ستتراكم الخسائر ثم في لحظة صحو ستكتشفون أن العمر ضاع والقطار انطلق ونحن ليس لنا إلا اجترار الخيبة.