العدد 4611
الأحد 30 مايو 2021
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
قصة النور والنار... نور الأمل من نار الألم (2)
الأحد 30 مايو 2021

منذ كنت صغيرًا، وأنا أقدّس الجمال بكل صوره، كتبا وأناقة ودراسة ورياضة وموسيقى. كنت أستمتع بالموسيقى، وكنت أذهب المنامة لاصطياد آخر صيحات الموضة. حتى انبرى ذات يوم أناس متوترون قالوا لي: إن الموسيقى حرام وأدواتها بوق من أبواق الشيطان. كان حلمي العزف على البيانو.

كنت أذهب لمكتبة في مدينتي الطيبة، وأرى لعب البيانو الصغيرة وأحاول العزف بيدي بصورة عشوائية. لا أعلم منذ كنت صغيرا أشعر أن الموسيقى جزء من جمال الحياة. كنت أرسم كاريكاتير، وكنت أرسم لوحات بالألوان، وشاركت في معرض ببلاد القديم بلوحة عن القدس.

ولكون الرياضة محل اهتمامي، عشقت كرة الطاولة، والتحقت بالنادي لسنين. حتى كبرنا في مجتمع غيب هذه الفنون بحجة أنها توافه والإسلام يركز على القضايا المصيرية. أدخلوا في عقولنا كشباب أن قيمة المرء بعمله وجزء من تقييم الشخص هو لحيته. وكانوا يقولون: إن حلق اللحية حرام حتى كبرت، وذهبت للدراسة الحوزوية، فاكتشفت أن حرمة حلق اللحية تأتي من نصوص غير معتمدة وضعيفة، لذلك السيد الخوئي لا يحرم حلق العارضين، وعدد كبير من فقهاء الفقه. مرت أعوام، طالما فُسَّق بشر لأجل لحية أو سماع موسيقى أو ثوب أنيق أو لعب ورق على طاولة أو شطرنج... إلخ.

سافرت إلى ايران، وكنت أقفز بين حقول من الألغام الفقهية غير العملية ولا المدعومة بالأدلة من قبيل أي حكومة غير دينية حكومة غير شرعية، ثم تطورت أن كل حكومة غير حكومة ولاية الفقيه فيها نظر. كان الإعلام الإيراني بنظريته، يتدخل حتى في تفكيك وإعادة تركيب الفقه المتوارث لمئات السنين، ليكون داعما لنظريته، وكان أي مرجع أو فقيه لا يرى ولاية الفقيه المطلقة كحاكم إما يتم إنذاره أو يلتزم الصمت أو يختفي . وكلها محاولات لغلق ثقل مدرسة الفقهاء التي كانت تدعو للسلام وعدم الدخول في مواجهات مع الدول كمدرسة الخوئي والحكيم التي توارثتها أجيال، ونقذت كثيرا من الأجيال في عدم الدخول في الصراعات السياسية.

كان الناس في زمن مدرسة الحكيم والخوئي يعيشون أفضل علاقة مع دولهم في أمن واستقرار ووسطيين وأكثر أبنائهم خريجو جامعات أوروبية ويمارسون ثقافة الحياة، ومنشغلون في التجارة والاقتصاد وعلى علاقة بكبار العوائل مع دولهم حتى بدأ كل شيء يتغير بانتصار الثورة الإيرانية 1979. كان انقلابا على المدرسة الكلاسيكية للسيد الخوئي والحكيم ومدارس الفقهاء التي توارثها الناس لمئات السنين. هنا كان التأثير كبيرا، واستبدلت المفاهيم عند بعض من الناس، فتحولت من تقديس الشهادة الجامعية إلى تقديس شهادة الموت، وانتقل شباب من عالم الفنون إلى عالم السجون، وتذوق موسيقى موزارت والتلذذ بجميل الصوت إلى التلذذ بالتابوت. كل شيء تحول إلا من بعض لم تؤثر عليه الداعية. فكان كل منطقة جميلة تتحول إلى كومة خراب ونعوش وسجون وغربة.

أصبح الموت يقتحم فكر الحياة، وبات جيل الشباب المنشغل بالسياحة والدراسة في مصر ولبنان (سويسرا الشرق الأوسط ) وعراق الرافدين... إلخ، أصبح هناك جيل جديد مرهون للعذاب وثقافة الموت، يكثر على نفسه ثقافة الحياة، وسماع الموسيقى والتلذذ بالرياضة والثقافة المتنوعة التي هجرت وانتقلت إلى حيث ثقافة الأحزاب التي كانت تجمل العذاب والموت بحجة الطريق الأسهل والأفضل للجنة.

هناك في إيران، اكتشفت بؤس النظرية المركبة على أعمدة هزيلة غير متناسقة أو منسقة أو منسجمة.

سافرت أوروبا، وسقطت بقية هذه الحجارة، وكلما تعمقت في الحضارات، وصلت إلى قناعة أن الدين وأهل البيت “ع” يقوم على السلام والمحبة وحب الحياة والأوطان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأجيال الضائعة بسبب الشحن والغسيل الفكري الذي لا يقود إلا إلى مقبرة أو سجن أو منفى.

اليوم، نحن بحاجة إلى انقلاب فكري على هذه النظرية والرجوع إلى الفكر الكلاسيكي الذي عاش عليه الأجداد من علاقة وطيدة مع الحياة والوطن وثقافة التنوير مع الاحتفاظ بحب وقيم أهل البيت “ع” والصحابة “رض” والانتقال إلى فكر التصالح والمصالحة الثقافية مع الواقع ودعم دولنا وأوطاننا وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأبناء لينعموا بحياة كريمة وطنية وبالفوز بالآخرة وفق الفكر الجميل المسالم الذي عشناه وتربينا عليه سنينا وذلك لا يكون إلا بالمنطق الوسطي والوطني والإنساني بترسيخ حب الله، إله الحب والجمال والإنسان.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .