العدد 4606
الثلاثاء 25 مايو 2021
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
قصة النور والنار... نور الأمل من نار الألم
الثلاثاء 25 مايو 2021

منذ كنت صغيرا، وأنا ألاحق ببندقيتي عصافير الكتب والمجلات. كنت أنتظر لساعات وصول (مجلة ماجد) الإماراتية. كبرت، وكبر معي شغف القراءة حتى عقدت علاقة صداقة مع (مجلة العربي) الكويتية التي كنت أشتريها من مصروفي الخاص. ولما أصبحت شابا، وقع في يدي تسجيل صوتي لنزار قباني، وهو يلقي قصائده في ربوع البحرين، قائلا: “أتذكر أني قبل عشر سنين، قلت إن بحرا من العشق يغرقني، فكيف لي أن أواجه عشق (البحرين)، فها أنا ذا قد جئت لأنام على ذراع المنامة”. سحرتني مفردات نزار المطرزة بإكسسوارات المعاني، وطراوة كلماته ممشوقة القد. الكتب جلبت كتبا، والدواوين أنجبت دواوين، من شوقي والمتنبي والشابي ومظفر النواب والجواهري. كنت في قبال شراء كل قطعة ثياب، أقتني كتابا.

وكنت مستمتعا، وأنا أطير كنورس بين مرافئ الثقافة، إلى أن اكتشفت موهبتي في لعب تنس الطاولة، والتحقت بنادي مدينتي تدريبا في جو ديني معتدل، ثم ذهبت تدريبا إلى الصالة الرياضية في الجفير. وحيث كانت السياسة، وتحديدا التيار الإسلاموي السياسي قد كشر بأنيابه هياجا في مرحلة الثمانينات، تحت شعار (الإسلام هو الحل)، شعار فضفاض بلا مشروع تنموي، ولا إجابات واضحة لا سياسيا ولا اقتصاديا، هذا الشعار الدسم المتنقل بين مايكروفونات التيار الإسلامي من حركة الإخوان المسلمين إلى حزب الدعوة إلى غيرهما... إلخ.

كان الجو السياسي العام أن الخلاص الأخروي يكمن في الهجرة إلى إيران باعتبارها (جنة الله الموعودة) والدولة (الممهدة للإمام المهدي) كما تم ترويجه حينها، وغيرها من الشعارات الجذابة للشباب. حزمت حقائبي مسافرا لإيران بعد تأثير إعلامي بشخصيات مختلفة، كان البعض منها يراني مؤهلا للحوزة بسبب اهتماماتي الثقافية والأدبية. درست هناك الفقه، وعلم الأصول، والنحو حتى وصلت لآخر مرحلة، مرحلة (البحث الخارج)، والتي كانت ما قبل الاجتهاد. كلما طال العمر، تكبر الأسئلة، وتضعف الإجابات.

أصبت بعد ثماني سنوات بصدمة معرفية وواقعية وسياسية، خصوصا وأنا أرى في أكثر من مرحلة امرأةً ترجم في حفرة في الساحة العامة في قم، قرب الجسر، غير أني اكتشفت كيف يتم برمجة الشباب حركيا، ومن كل أصقاع العالم بغسيل فكري لا يقود إلا إلى سجن أو مقبرة أو منفى. رغم تكدس الكتب الآيديولوجية، كانت تزاحمها كتب جبران والجابري وأركون وعلي حرب وسروش وقباني والمنفلوطي وسارتر ونيتشه وروسو. فبين صدمات معرفية وأخرى سياسية، بدأت اكتشف حقائق كبيرة، وفي عمر 26 اكتشفت أن فكر أهل البيت “ع” يختلف عما يروج له سياسيا، خصوصا وأنا أرى ظلامة السيد محمد حسين فضل الله، وكيف كانت الحملة مستعرة ضده، وضد المرجع السيد الشيرازي الذي زرته في بيته، وكان تحت إقامة جبرية، وأنا شاب كنت أبحث عن الحقيقة الضائعة، فراح يسألني أسئلة نحوية لا تخلو من مرح وخلق عظيم.

وجدته متواضعا وطيبا لا يستحق ما حدث له، فقد عاش غريبا ومات غريبا؛ لأنه كان يمتلك رأيا مختلفا. أسمع إعلام الإذاعة في طهران وأنا شاب، يقول يجب احترام مراجع الدين، وفي داخل قم أجد المرجع الشيرازي تحت الإقامة الجبرية والمرجع منتظري تكسر مكتبته من قبل المتظاهرين المجيشين، وأرى العرائض تتكاثر في تفسيق السيد فضل الله؛ فقط لأنه مستقل، وهنا لحظت الشوزفرينيا والتناقضات. ورأيت بأم العين كيف كان الانقلاب على المرجع منتظري، وتعبئة الجماهير ضده، وهو كان القائد الاحتياطي يوما ما. وفي مراحل أخرى ضد المرجع محمد الصدر، والد مقتدى الصدر، وأخرى ضد خاتمي بحجة أنه منفتح فكريا، والهجمة التي قادها الأصوليون فترة الانتخابات الرئاسية ضده، وسروش، المفكر الذي أحببت قراءاته النقدية للتاريخ وتفكيك النصوص، ووجدت هناك من يكفره. وأي شخص يحاول أن يبدي رأيه أو يستقل في أي رؤية تاريخية أو فلسفية، فضلا من أن يكون مختلفا في رؤيته لولاية الفقيه كان يتم التعامل معه أولا: بتصفية سمعته قبل كل شيء، كما مورس مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وإسقاطه جماهيريا كما يحدث الآن للسيد الحيدري. شابا كنت وأنا ألمح الانقسام بين المجلس الأعلى الإسلامي للحكيم، وحزب الدعوة والتراشق الواضح.

تزاحمت في عقلي أسئلة ديكارتية، أين هي ملائكية الاختلاف وحضارة حرية الرأي والرأي الآخر حول كل ما أراه، وأين هي الحرية التي تقال؟ هنا عرفت أن المصالح هي التي تقود السياسة لا المبادئ. سقطت تماثيل كبرى في عيني، والذي بقي هو جمال وقيم أهل البيت “ع”، خصوصا الإمام علي الذي لازمت منهجه عبر (نهج البلاغة) قراءة وتنقيبا، حتى وأنا في أوروبا. الامام علي “ع” كان يركز على حب الأوطان، والوسطية والاعتدال والإنسانية مع الآخر مسلما أو مسيحيا.

كانت تجربة مليئة بالأوجاع، لكنها ساهمت في فهمي الدقيق لكل الحركات الإسلامية، ومعرفتي الحقيقية لكارثية مفهوم (الدولة الدينية) سنية أو شيعية أو مسيحية أو يهودية، التي بسبب أخطائها المنهجية وفلسفتها للحياة تفتقر للعلمية، ولا تقود إلا إلى زج الشباب في نار جحيم السياسية. الوعي المبكر قادني لفهم حقيقي إستراتيجي يقوم على حب الوطن ودولة القانون، وفصل الدين عن إدارة الدولة المدنية.

كان تقلد جلالة الملك للحكم والتصويت على ميثاق العمل الوطني، الفرصة الذهبية وطوق النجاة بالنسبة لي للخروج من كل هذه الفوضى الثقافية، والحركية والمنطق الخطأ في قراءة فكر أهل البيت “ع”. ففكر أهل البيت لا يدعو إلى تحزب، أو استخدامه كورقة في سياسات الدول، ولا يجير ضد هذه الشخصية أو تلك. فكر أهل البيت أكبر من سياسات بشرية تتغير مع تغيرات المصالح القومية والآنية. جاء يوم التصويت على الميثاق، حزمت أمتعتي ليلا للسفر الى سفارة البحرين في طهران، وفي الساعه السادسة صباحا هاتفني صديق قال لي: سيد هل ستذهب لتصوت على الميثاق؟ قلت: نعم وبنعم أيضًا. وأنا في إيران أسأل نفسي أسئلة نقدية: الإمام الحسين كان يتحرك وفق ظروف تاريخية خاصة، كما يقول الشيخ مطهري في كتابه (الملحمة الحسينية)، وحتى كبار المراجع، فلماذا لا أحد يتحدث للناس عن صلح الإمام الحسن، و موقف الإمام الرضا من الحُكم في عهده، حيث كان يحتكم للمصلحة العامة، وكان وليًا للعهد، ولماذا لا احد يتحدث بوضوح عن موقف الامام علي (ع) من الصحابة (رض )حيث كان مستشارا للخليفة عمر بن الخطاب (رض )، و هو انتقد بشدة، المتمردين على الخليفة الثالث (رض) ضد الفتنة القائمة. وكلها أحداث يثبتها المؤرخون من كل الطوائف.

لماذا يقتطع جزء من التاريخ يخرج من سياقه. وتكون النظرية المسيطرة في عقل الشيعي هو ثقافة الشهادة، والتحدي والمواجهة، في حين في سيرة اهل البيت مواقف كثيرة تقوم على العمل السلمي آنذاك، ورفض أي تمرد كما هو نهج الامام الصادق. هنا فهمت لماذا الأسس التي يقوم عليها منهج المرجع الخوئي والمرجع الحكيم، بل 99 في المئة من المراجع الدينية تلتزم بنظرية السلم والتواصل مع نظام البلد الذي يعيشون فيه دون أن يدخلوا الوطن او الناس لدفع فواتير سياسية. ودوري التاريخي الثقافي هو العمل على ترسيخ نظرية الفقه المغيبة منذ 1979 من التعاون الوطني مع الدولة. وأمتلك أدوات الفقه في التنظير لها. مع هذه أسئلة كانت تختمر في عقلي بصورة قلق معرفي، حتى رحت أبحث في كتب فلسفة الغرب، وزرت الغرب، وترسخت القناعة أن خير فكر للدول والمجتمعات هو الوسطية والتواصل لخير الأوطان وقادتها. نعم أهل البيت يدعوننا لحفظ الأوطان، وحفظ أبناء الوطن من الاحتراق.

رجعت إلى البحرين وقد حسمت كل أسئلتي بوضوح معرفي. وشاء القدر أن أكون في وطن، ملكه خير الملوك حكمة وثقافة وخلقا وخُلقا وسعة صدر وطيبة قلب تتسع لكل العالم. ومنذ رجوعي، وأنا أدافع عن المشروع الإصلاحي مواليا لجلالة الملك بكل وضوح وفخر واعتزاز، ومحبا للخير للناس بالترافع عن همومه بحرفية، مترافعا عن ملفات وطنية معيشية لخير الوطن والناس، لا أعرف أن أكره إلا الكراهية، داعما للمواقف الإنسانية، حاملا رسالة التنوير، أن أنور الناس والشباب بعدم السقوط ضحايا لغواية أي شعار أو حركة انفعالية، تقود إلى محارق على حساب السلم الأهلي والوطني. ومنذ رجوعي أحمل كل الاعتزاز وفائض الشكر لملك، استبدل غربتنا المتشظية إلى لقاء وطن، و من التشرد على أرصفة الوجع إلى حياة آمنة في ربوع الأرض.

هدفي وما زال أن أنقذ أي شاب من أن يقع ضحية السياسة ويذهب عمره هباء، لذلك سابقى مروجا لنظريتي القائمة على الوسطية ودعم الوطن والقيادة والناس كفلسفة فكرية بخطاب معتدل حضاري يقوم على الاقناع العلمي، لذلك اقول: إن الكرامة والعزة وحب أهل البيت تقتضي أن نقف مع القانون، وندخل الناس في حياة جديدة تقوم على السلام وثقافة الحياة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .